أ.د.عثمان بن صالح العامر
هناك نوع من الهدوء يبعث في النفس الراحة، ويولد بين الحنايا الطمأنينة، يغذي الروح، ويسعد القلب، وتسكن إليه الجوارح، يبحث عنه كل مهموم مغموم، وينشده كل متعب مكلوم، وغالباً يجده الواحد منا في الزوايا المظلمة حين يسودّ الليل، وينام الناس فيقوم المسلم بين يدي الله راكعاً ساجداً لرب يعلم ما كان بنا وما سيكون لنا وما لم يكن كيف يكون لو كان.
وهناك هدوء قاتل على العكس من ذلك تماماً يشعر بألم سياطه المعذبون في الأرض، والمرضى على الأسرّة البيضاء بعد أن يغادر الأطباء والممرضون والزوار أجنحة التنويم، وأشد منهم السجين في زنزانته، نسأل الله السلامة من كل ذلك والعافية.
هناك هدوء قاتل آخر يغيب عن بال الكثير منا ألا وهو الهدوء الذي يغزو الكبار الذين تقاعدوا من العمل، وتزوج أولادهم الذكور منهم والإناث، وكل استقل بحياته بعيداً عن والديه أو أحدهما إن كان الأب أو الأم قد فارق الحياة. هذا الهدوء يأتي لمن بلغ أرذل العمر، فبعد أن كان الضجيج يملأ البيت، والصوت لا يغادر ردهاته ساد الصمت المطبق جنبات المكان، الأمر الذي أحس معه هذا المسن بألم الفراق وشعر بوجع الوحدة، إذ صار رفيقه طوال يومه (ليله ونهاره) ساعة الحائط التي تتحرك أمام ناظريه ببطء غير معهود.
عندما يطرق الباب يفز قلبه، وتتحرك جوانحه، ويسعد خاطره، بمجرد سماعه صوت الجرس، ينظر جهة الباب الداخلي للبيت في انتظار القادم، من عساه يكون؟ يمني نفسه أن أحد أولاده أو أحفاده هو الضيف القادم إليه لعله يسليه، يؤنسه، يسعده، يدخل السرور على قلبه، يحرك معه الساعة التي ما زالت تتحرك ببطء وتثاقل لا نظير له من قبل.
صدقوني أن هناك من بيننا، في بيوتنا، داخل مجتمعنا من يعيش هذه المأساة ويتجرّع الغصات، وكأنه حكم عليه أن يبقى حبيس الإقامة الجبرية حتى يأتيه الأجل.
داخل أروقة بيته يذوق مرارة الوحدة، وإذا خرج شعر بالغربة المجتمعية، يرى في جنبات الطرقات وعند باب مسجده طيف أترابه الذين كان يعيش معهم في دروب الحياة المختلفة، وهم اليوم فارقوه، رحلوا عن دنياه لدار البرزخ، ومن بقي منهم فهو كحاله حبيس الدار لا يفارقها إلا نادراً وعلى مضض لصعوبات عدة لا تخفى. ولذلك كان حق الوالدين عندما يصل بهما الحال إلى ما ورد أعلاه قضاء رباني ربطه الله سبحانه بحقه في العبادة، ولحسهم المرهف كان مجرد التلفظ بـ(أف) فضلاً عن غيره منهي عنه شرعاً، فليكن لنا مع كبارنا وفاء.. وإلى لقاء، والسلام.