د. عبدالحق عزوزي
أعلنت الأنظمة الحاكمة في بوركينا فاسو ومالي والنيجر مؤخراً الانسحاب «الفوري» من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، في قرار قد يؤدي إلى تداعيات كبيرة تشمل مثلاً حركة البضائع والأفراد في البلدان الثلاثة التي تفتقر إلى منفذ بحري؛ وهو ما أثار تخوفاً كبيراً في المنطقة جعل رفيعي المسؤولين في التكتل يعقدون مجلس الوساطة والأمن التابع له في العاصمة النيجيرية أبوجا لمناقشة حيثيات خروج الدول الثلاث؛ وجاء في البيان المشترك لهاته الدول أن «إيكواس»، «تحت تأثير قوى أجنبية، تخون مبادئها التأسيسية وباتت تشكل تهديداً لدولها الأعضاء وشعوبها»، وأضاف البيان: «لا يمكن لمجموعة الخمس في الساحل أن تخدم المصالح الأجنبية على حساب مصالح شعوب الساحل، ناهيك عن قبول إملاءات أي قوة مهما كانت باسم شراكة مضللة وطفولية تنكر حق سيادة شعوبنا ودولنا، ولذلك، فقد تحملت بكل وضوح المسؤولية التاريخية بالانسحاب من هذه المنظمة»
وموازاةً مع ذلك، فإن العديد من الدول الغربية وعلى رأسها فرنسا لم يعد مرحباً بها في تلكم البلدان؛ فهي تعاني اليوم من فشل إستراتيجيتها في منطقة الساحل؛ حيث إن التغييرات السياسية الداخلية في تلكم البلدان لم تأخذها يوماً من الأيام الدول الغربية في الحسبان؛ زد على ذلك أن دول مجموعة الساحل الخمس (مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا) لا يمكنها أن تشكل وحدة إستراتيجية يمكن الاعتماد عليها بعد التغييرات السياسية في المنطقة؛ كما أن فرنسا تشعر بخطورة الرياح المناهضة لها في المنطقة بعد عدة سنوات من التواجد المتواصل للقوات العسكرية وسقوط الكثير من القتلى من جانبها... كما لا تزال هناك أعمال عنف جهادية في شمال مالي وقد وصلت إلى وسط البلاد وكذلك إلى النيجر وبوركينا فاسو المجاورتين.
وتنظر اليوم هاته الدول الإفريقية بعين مرحبة إلى قوى أجنبية أخرى مثل الصين وروسيا، وهما القوتان اللتان بدأتا في تعميم تواجدهما الاقتصادي والتجاري بل والعسكري في المنطقة.
وتعي أمريكا وأوروبا النفوذ المتزايد لروسيا والصين في القارة الإفريقية، لأن إستراتيجيتهما أكثر من أن تزال ببعض الدعومات المالية الأوروبية التي قد تصل هنا وهناك أو قد لا تصل، خلافاً لروسيا التي تمد تلك الدول بما تحتاجه من مال وعتاد، وخلافاً للصين التي تعمل دون تثوير ولا تهييج في إفريقيا، وهي لا تبني طرقاً فقط ولكنها تُكوّن صداقات وتحالفات عسكرية، وتعتمد هناك على الاستثمار في بناء رأس المال الاجتماعي والبشري... وتشير دراسة أجرتها «وكالة ماكنزي الأمريكية» أن أكثر من 1000 شركة صينية تعمل حالياً في إفريقيا، كما أن بعض المصادر تتحدث عن 2500 شركة، 90 بالمائة منها شركات خاصة. كما لا يخفى على المتتبعين الإستراتيجيين التواجد العسكري في إفريقيا؛ فقد سبق وأن أرسلت الصين بارجتين بحريتين إلى القرن الإفريقي وبالتحديد إلى جيبوتي حيث تملك قاعدة عسكرية ولوجيستية هناك... فما يزيد عن 400 عسكري أضحوا يتواجدون في هذه القاعدة لتأمين طرق الملاحة في القرن الإفريقي على مستوى خليج عدن والقرن الإفريقي.
وهذا أيضاً يدخل في إطار ما تقوم به الصين من إنشاء طرق حرير جديدة؛ ويتكون هذا المشروع الطموح من قسم بري، ويتمثل في إنشاء وتمويل سكك حديدية بين الصين وأوروبا، وقسم بحري، يتمثل في استثمارات في عشرات الموانئ عبر العالم لتيسير التجارة الصينية... ثم إنه رغم الأزمات الدولية المتتالية، فإن الصين تمكنت من بناء أكبر أسطول بحري في العالم، وأعادت هيكلة أكبر جيش محترف، كما طورت ترسانة نووية وبالستية قادرة على منافسة عدة دول نووية مجتمعة؛ واقتصادياً، تحولت الصين إلى ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية.
إن البيئة الأمنية الدولية تغيرت؛ والتحالفات الجيو-إستراتيجية تقوم اليوم على أسس مختلفة عما عهدته التحالفات السابقة؛ كما أن الشراكات التجارية والاقتصادية التي تبنيها حالياً الدول الإفريقية تنتفض وتثور على ما كانت تفرضه الدول القوية أو المستعمرة عليها؛ وهذا ما يفسر أيضاً خروج دول مثل النيجر ومالي وبوركينا منذ أيام بمفعول فوري من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إيكواس»...