د.محمد بن عبدالرحمن البشر
عاش العالم في فترات متعاقبة من عمر التاريخ، تنقلاً أوتزامناً لمناطق الحضارات، ابتداء من الحضارة السومرية، والمصرية، والحيثية، واليونانية، والفينيقية، والأكادية، والبابلية، والآشورية، والفارسية في الشرق الأوسط، وفي الشرق الأقصى توحيد قبائل الصين وتكوين عصر الإمبراطوريات، وبناء سور الصين العظيم، الذي تم بناؤه للحماية من هجمات القبائل الرحل المغولية التي كانت تعرقل المسيرة التي بنتها الصين ذات الطابع الزراعي المدني، ولكل من المجتمعات صفاتها الإيجابية وغير الإيجابية، فما زالت تلك القبائل الرحل في الشرق الأدنى أو الشرق الأقصى أوأي مكان في العالم تتصف بالكرم، والشجاعة، وإيواء الملهوف، وحماية من يلجأ اليهم، وقصصهم في ذلك مكتوبة ومعلومة، ولقد عشت ذلك بأم عيني في الشرق الأوسط وفي المغرب العربي وفي منغوليا الجنوبية والشمالية، وقد أتيح لي أن أعيش في منغوليا الداخلية بضعة أيام شاهدت فيها كرماً يشابه ما نشاهده حتى يومنا الحاضر في سواه لدى القبائل الرحل، أوالتي كانت رحلا ثم ما لبثت أن استقرت لتنهل من معين الحضارة.
بعد تلك الحضارات ومنها تلك التي نشأت في أمريكا الجنوبية، نشأت الحضارة الرومانية، بشقيها الشرقية البيزنطية، والغربية الرومانية، ثم سادت الحضارة الإسلامية، التي توسعت في جميع أنحاء العالم القديم، حتى دخلت أوروبا من غربها من خلال الأندلس، أو شرقها من خلال تركيا، ووصلت إلى أقصى الشرق عبر التجار ولاسيما العمانيون واليمنيون، وكانت الحضارة الإسلامية وحيدة زمانها حيث لم تزامنها حضارة أخرى منافسة أوموازية، لهذا بقيت تغرف من الحضارات السابقة، وتضيف إليها ما شاء لها أن تضيف، وتبثها في أرجاء العالم المعروف في ذلك الزمان، مع تجاوز العقبات التي قد تقف في طريقها ومنها اللغة والمعتقدات السابقة، فلم تبق منطقة قط معروفة إلا وصلتها إلا في القليل النادر في الشمال الأوربي بسبب كونهم في ذلك الوقت قبائل غير متحضرة، تغزو للنهب والتخريب، كما حدث من الفايكونج وغزوهم الأندلس، وتخريب مدن الساحل مثل مدينة شنترينا وأخذ الأموال والنساء، والعودة إلى أماكنهم، فهم لا يستقرون او يبنون حضارة، أويحملونها، بينما كانت الحضارة الإسلامية تحمل الحضارة لتزرعها في الأرض التي تطأها، لكونها تحمل رسالة، وليس لغرض مادي بحت، لهذا فإننا نجد انتشارها في كل قرية ومدينة من مدن الدول التي تصل إليها، فقد وصلت إلى شبه الجزيرة الهندية، ولم تقف عند الشمال الذي انفصل فيما بعد مكوناً باكستان، وبنجلادش، لكن نجد أنها موجودة في كل مدينة وقرية إلا ما ندر، مثل نيودلهي، مومباي، كيرلا، كلكيتا، حيدرآباد، مدراس، وغيرها كثير، وحتى سيريلانكا الجزيرة المحيط بها الماء من كل جانب، نجد الحضارة الإسلامية وصلت إلى هناك، والصين ذلك البلد الكبير النائي والمغلق، وصلته الحضارة الإسلامية، وبها شواهد قبور يعتقد بعض سكان الصين أنها لعدد من الصحابة الذين وصلوا إلى هناك، ومن المؤكد ان تلك الحضارة قد وصلت إلى كل مدينة وقرية في الصين، لهذا فإن الزائر للصين يجد في كل مكان مسجدا وجمعية أو مركزا يهتم بشؤون المسلمين، وقد وصل عدد من التجار المسلمين إلى هناك منذ بزوغ صبح الإسلام، كما وصل عدد غير يسير من المسلمين في فترة إمبراطورية ايوان، التي كانت تحكم الصين قبل نحو ثمانمائة سنة، التحقوا بالجيش وانتشروا في كل مكان، وأصبحوا الطبقة الثانية بعد الأسرة الحاكمة، حيث كان المسلمون بنفوذ كبير، واستطاعت هذه الحضارة أن تسود في دول مثل ماليزيا وإندونيسيا، وغيرها، ومناق كثيرة من الشرق الأقصى.
بعد تقلص تلك الحضارة لأسباب مختلفة، ظهرت حضارة أخرى في أوروبا، اعتمدت في أساسها على حضارات سابقة، مثل اليونانية والرومانية والإسلامية، لكنها طورت تلك العلوم بمنهج جديد دلفت بها إلى سيادة العالم حتى يومنا الحاضر، ويتركز هذا المنهج على البعد عن هيمنة الكنيسة، التي كانت تقف حجر عثرة في طريق التقدم العلمي، وقد ذهب ضحيتها عدد غير قليل، مثل جاليلو، وغيره، كما تم اعتماد قواعد سياسية للحكم، واعتماد التجربة والصواب والخطأ للوصول إلى نتائج علمية مثمرة يمكن توظيفها توظيفاً عملياً، وكان الوصول إلى تحويل الطاقة الكامنة إلى طاقة متحركة نقطة انطلاق للتقدم العلمي المادي، ومن خلال ذلك أمكن صناعة وسائل النقل المفيدة، مثل القطار والمترو والسيارة والطائرة، والأخرى المدمرة مثل الصواريخ التي تحمل المواد المتفجرة، والطائرات التي تقذف بالقنابل التي كأنها حمم بركانية، واستخدام تلك الطاقة الكامنة في ذرات اليورانيوم لإنتاج طاقة متحركة مفيدة، وأخرى يمكنها تدمير العالم بأسره، وقد رافق هذه الحضارة بعض القيم الأخلاقية بدرجات متفاوتة، مثل الانضباط في العمل، وسيادة القانون، ونزاهة القضاء، والمنافسة العادلة، والالتزام السلوكي، مثل الحفاظ على العائلة وتربية النشء تربية سليمة، لكن عاب ذلك الحضارة العبودية المقيتة في فترة معينة، وقد حققت هذه الحضارة نقلة نوعية استفادت منها البشرية جمعاء.
واليوم يبدو أن هناك اتجاها عند بعضهم للتخلي عن بعض القيم السلوكية، من جانب الليبراليين، وبروز أحزاب يمينية متطرفة إلى الحكم، تحمل أفكاراً متطرفة، لا ترغب في العيش مع الآخر، وتؤمن بالتفوق العرقي، ويبقى أن نقول، هل هناك في المائة سنة القادمة حضارة جديدة تزاحم هذه الحضارة الغربية السائدة؟