أحمد بن سليم الحجيلي
في شهر يوليو من عام 2015 احتفل إلون ماسك بعيد ميلاده الـ44 في حفل باذخ استمر 3 أيام لعبت زوجته دوراً كبيراً في إعداده. حفلة دعي لها أفراد العائلة والأصدقاء.
كان ذلك قبل أعوام من تحول منصة تويتر إلى إكس وقبل أن تحظى شركة تسلا بعائد مالي كبير.
كان من ضمن الضيوف لاري بيج، المدير التنفيذي لشركة قوقل. في ذلك الوقت بدأ الذكاء الاصطناعي يلقي بظلاله على النقاش العام، حيث تم استخدامه للتعرف على القطط في تطبيق يوتيوب بنسبة 16 % فقط من الدقة.
في تلك الحفلة، كان موضو ع الذكاء الاصطناعي من أهم الموضوعات التي دار الحديث حولها بين كل من إلون ماسك Elon Musk ولاري بيج، Artificial Intelligence, AI) Lary Page). كلاهما يعد مليونيراً حتى في ذلك الوقت وكانا صديقين مقربين جداً لأكثر من عقد من الزمان للدرجة التي يصف ماسك علاقتهما مازحاً في بعض المناسبات: أنه كان ينام على أريكة في منزل بيج بعد ساعات طويلة يقضيانها في ألعاب الفيديو.
لم تشفع هذه العلاقة القوية بين الرجلين في تخفيف حدة النقاش الذي أخذ وتيرة متصاعدة حول نقطة أساسية خلف فكرة الذكاء الاصطناعي: هل سيحسن معيشة البشر أم سيدمرها؟.
امتد نقاشهما ساعات واحتد كما وصف ذلك بعض من أنصت للنقاش المعمق من المدعوين للحفلة. لطالما كان لاري بيج مؤيداً وبحماسة شديدة للتطور في استخدام التكنولوجيا ولديه تفاؤل بشأنها ولم يكن لديه إشكالٌ ألبتة في أن يصل البشر في نهاية الأمر إلى التوحد مع الآلة. فكان يعتقد أنه يوماً ما سيكون هناك أنواع كثيرة من الذكاءات تبحث عن الموارد والأفضل هو من سيفوز بها.
يعارضه ماسك: لو حدث ذلك فسيمثل ذلك نهاية الإنسانية لأن الآلة سوف تدمر الإنسان.
يصر بيج على رؤيته التي يجب أن يسعى المهتمون في المجال التقني إلى تحقيقها ويخالفه الرأي إلون ماسك. وفي آخر النقاش ينعت بيج إلون ماسك بقوله ( specieist) ويعني بها أنه شخص يؤثر ويفضل البشر على أشكال الحياة الرقمية في المستقبل. ويقول بعض الحاضرين إن إلون ماسك شعر بنوع من الإهانة وتوقف عن الحديث.
ظن الحاضرون، بالرغم من تفاجئهم من نبرة النقاش العالية، أن ذلك النقاش المحتد لا يعدو كونه أحد الجدالات التي تنفجر أحياناً في حفلات مجتمع السيليكون فالي Silicon Valley، و س ين س ى.
بعد مرور ثماني سنوات من تلك الحفلة في 2015, بالوسع القول إن ذلك النقاش لم يكن مجرد نقاش عابر.
فقد ظل السؤال: هل الذكاء الاصطناعي سيحسن البشرية أم سيدمرها أو على الأقل سيلحق كثيراً من الضرر بالبشر- بقي هذا السؤال مهماً للغاية وعلى مستويات عدة. تثار أهمية الموضوع من قبل مجتمع السيليكون فالي، ومستخدمي الشات بوت، والأكاديميين والمشرعين للتوصل إلى جواب على السؤال التالي: هل يجب أن تبقى التكنولوجيا تحت السيطرة أم يطلق لها العنان لتتطور بشكل مفتوح لا قيود عليه؟
هذا الجدال المستمر حرّض بعض أغنى أغنياء العالم ضد بعضهم البعض: ماسك وبيج ومارك زوكربرج مؤسس فيس بوك إضافة إلى مستثمرين كبار في التكنولوجيا من أمثال بيتر ثيل وساتيا نيدلا في ميكروسوفت
. OpenAI وأخيراً سام ألت مان مؤسس أوبن أي آي.
جميعهم صارع من أجل الحصول على حصته من البيزنس التي ستقدر يوماً ما بتريولونات الدولارات إضافة إلى امتلاك القوة للتحكم في هذا النوع من البيزنس وانتشار تطبيقاته.
في قلب هذه المنافسة كانت العقول تعمل بكامل طاقتها لكن نحو غايات مختلفة. فالذين كانت تساورهم مخاوف من الذكاء الاصطناعي أصبحوا منخرطين بشكل كامل في تطويره والاستفادة من فتوحاته وإمكانياته. وما هو مبررهم؟ حسناً سيقولون لك إن ما يبرر طموحاتهم الجديدة أنهم يحملون على عاتقهم أيضاً أنهم سيحمون العالم من أخطار الذكاء الاصطناعي.
توقف الرجلان ( ماسك وبيج ) عن التحدث إلى بعضهما بعد ذلك النقاش المحتد حول رؤيتيهما المتباينتين لمستقبل الذكاء الاصطناعي. بعدها بأسابيع التقى ماسك بألت مان الذي كان يدير مؤسسة تقنية صغيرة ومعه عدد من الباحثين في فندق في كاليفورنيا.
اتفقا على إنشاء أوبن أي آي Open AI في نهاية عام 2015. وضخ ماسك Musk وعدد من المستثمرين ملايين الدولارات.
لكن الأهداف المعلنة بتطوير ذكاء اصطناعي آمن لم تتلاءم مع ما كان يحدث على أرض الواقع. فما فعلته أوبن أي آي Open AI بإطلاقها شات جي بي تي Ch atGPT غيَّر ، وبشكل نهائي، عالم صناعة التكنولوجيا؛ إذ قدمت للعالم من دون مقدمات أخطارا وفوائد الذكاء الاصطناعي دفعة واحدة.
تقدر قيمة هذه الشركة بـ80 مليار دولار. لكن ثمة خلافاً حصل بين ماسك وألتمان.
ويعلق ألتمان على ذلك الخلاف بقوله: «يوجد خلاف وعدم ثقة ناهيك عن دخول «الغرور» كسبب للخلاف « ويضيف: «كلما اقترب الناس من كونهم يسيرون نحو اتجاه واحد يشتد الخلاف. ترى ذلك بجلاء حتى لدى أتباع الديانات والطوائف. تشتد مرارة الخلاف بين أصحاب المذهب الواحد».
قبل حوالي شهر من الآن ظهر خلاف كبير بين أعضاء مجلس إدارة أوبن أي آي openAI، ونتج عن ذلك طرد ألت مان لفقدهم الثقة في أنه سيقود الشركة لبناء ذكاء اصطناعي لمنفعة الإنسانية. خلال خمسة أيام عصيبة، بدا وكأن هذه الشركة تتداعى إلى أن قرر أولئك الأعضاء في مجلس الإدارة التراجع عن قرارهم تحت ضغوطات كبيرة من المستثمرين وكذلك موظفي الشركة الذين هددوا بالسير خلف ألتمان وترك الشركة.
خلال تلك الأحداث الدرامية داخل هذه الشركة عرف العالم جانباً من الصراع المر بين الكيانات والأفراد الذين سوف يلعبون دوراً كبيراً في تحديد مستقبل الذكاء الاصطناعي.
لكن هناك أحداثاً تقنية مهمة حدثت قبل إطلاق ChatGPT. تلك الأحداث لم تكن معروفة لكن السباق المحموم في السيليكون فالي نحو السيطرة على عالم التكنولوجيا والتي باتت تشكل، وبسرعة غير معهودة، مفاهيم وطرقاً جديدة ما زالت تلقي بتأثيرها على العالم بأسره بدءاً من التعليم وطرقه المتجددة باستخدام التكنولوجيا وصولاً إلى توظيفها في الحروب.
أجرت نيويورك تايمز أكثر من 80 مقابلة مع مديرين تنفيذيين وباحثين ومستثمرين وشخصين ممن حضروا حفلة عيد ميلاد ماسك في 2015 لكشف الطموحات والمخاوف والسعي وراء المال في مجال الذكاء الاصطناعي.
مولد شركة الديب ما يند DeepMind – العقل العميق-:
قبل خمسة أعوام من حفلة عيد ميلاد ماسك وقبل سنتين من افتتاح تقنية ذكاء اصطناعي للتعرف على القطط في اليوتيوب 2012 من قبل شركة قوقل، حضر ديميس هاسابيس -وكان عمره آنذاك 34 عاماً وهو عالم مخ وأعصاب- حضر حفلاً مقاماً في منزل السيد بيتر ثيل في سان فرانسيسكو.
في عام 2010 كان هاسابيس مع اثنين من زملائه وجميعهم من بريطانيا يبحثون عن تمويل لبدء بناء مشروع الذكاء الاصطناعي العام Artificial General Intelligence أي. جي. آي AGI، آلة تستطيع فعل أي شيء يستطيع الدماغ البشري القيام به. في ذلك الوقت، لم يهتم بموضوع الذكاء الاصطناعي سوى قلة من الناس بالرغم من أن الكثير يغيب عنهم حقيقة أن عمر الاهتمام العلمي بالذكاء الاصطناعي تجاوز النصف قرن. خمسون عاماً لم تكن كافية لجعل الآلة أقرب ما تكون للدماغ البشري وقوته.
ومع ذلك ظل بعض العلماء والمفكرين غير متفائلين بشأن الذكاء الاصطناعي. نعم العديد منهم من أمثال هؤلاء الشبان الثلاثة من بريطانيا والذين تربطهم علاقة بإليزاير يودكوسكي Eliezer Yudkswsky الذي يعد من فلاسفة الإنترنت ومتعلم ذاتي للذكاء الاصطناعي بمعنى أنه درس نفسه بنفسه. ويعد أيضاً قائداً لمجموعة تطلق على نفسها مجتمع الأنثروبيك Anthropic، وتعني: فاعلين اجتماعيين من أجل نشر الخير.
يؤمن هؤلاء بأن الذكاء الاصطناعي من الممكن أن يوجد علاجاً لأمراض السرطان وقد يحل مشكلة التغير المناخي ولكن في نفس الوقت قلقون من أن تصل منتجات الذكاء الاصطناعي إلى فعل أشياء لم يقصدها مخترعوها، وذلك عندما تصبح هذه الآلات أذكى من البشر فينقلب السحر على الساحر.
بنى السيد ثيل ثروته من استثماره المبكر في الفيس بوك ومن خلال عمله كذلك مع إلون ماسك في البدايات عند نشأة نظام الدفع الإلكتروني الشهير PayPal. وقد أبدى اهتماماً كبيراً بمفهوم السينقولاراتي The Singularity (الفردانية) وهو اسم يرمز إلى الخيال العلمي الذي يصف اللحظة عندما تكون الآلة خارج نطاق سيطرة الإنسان عليها.
وبتمويل من السيد ثيل وسَّع يودوسكي معمله للذكاء الاصطناعي وأنشأ مؤتمراً سنوياً للحديث عن السينقولارتي The singularity . وفي مؤتمر أقامه للذكاء الاصطناعي التقى بحسابيس وصديقيه وتعرف إليهما.
قام السيد يودوسكي بتقديم حسابيس إلى السيد ثيل. علم حسابيس أن التعرف على ثيل عن قرب وكسب ثقته أمر صعب وهو محاط بعدد كبير من الباحثين في المجال التقني ويودون جذبه إلى الاستثمار في مشاريعهم. فكان هدفه أن يرتب لقاءً آخر معه أكثر خصوصية. مازح حسابيس ثيل بقوله: في لعبة الشطرنج يوجد توتر عميق بين الفيل والخيل. وبالرغم من أن للقطعتين القيمة نفسها تقريباً إلا أن اللاعب الماهر يعلم أن قوتهما عند توظيفهما تختلفان بشكل كبير.
نجح حسابيس في إثارة فضول السيد ثيل فدعاه وصديقيه للقائه في منزله في اليوم التالي. انتهى الاجتماع بعد اتفاق الحاضرين على دفع مليون و400 ألف باوند بريطاني تقريباً مليونين وربع مليون دولار أمريكي كتمويل لدعم مشروع حسابيس وكان ثيل المساهم الأول والرئيسي.
واتفقوا على تسمية الشركة بالعقل العميق DeepMind ، إشارة إلى مصطلح التعلم العميق أحد المفاهيم الشائعة في أنظمة الذكاء الاصطناعي لتعلم المهارات عن طريق تحليل أحجام بيانات كبيرة ولافتتاح إمكانيات جديدة في علم الدماغ، وكذلك خطوة نحو «التفكير العميق» وهو اسم كمبيوتر عملاق ظهر في فيلم الخيال العلمي
The Hitchhiker›s Guide to the Galaxy «دليل المسافر إلى الفضاء».
في عام 2010، بدأ العمل على إنتاج الآلة التي يحلمون بها. منطلقين من اقتناعهم بأنهم طالما فهموا المخاطر وعرفوها جيداً فسيحمون العالم.
لم يعتقد مصطفى سليمان أحد أعضاء ذلك الفريق وجود تناقض في الموقف إذ يقول: هناك فوائد جمة يمكن أن توجدها هذه التكنولوجيا فالهدف لا ينصب على وضع حدود على تطويرها أو إيقافها أو الحد منها وإنما الهدف هو توخي الآثار السلبية التي تنتج عنها.
هكذا نجح حسابيس في الحصول على التمويل اللازم للاستثمار في أبحاثه، كما أن تعاونه مع ثيل أوصله إلى التعرف إلى ماسك. فبعد سنتين من ذلك الاتفاق مع ثيل قابل حسابيس ماسك في مؤتمر نظمه صندوق الاسثمارات العائد لثيل وبالمناسبة كان ثيل قد ساهم في مشروع ماسك المشهور سبيس إكس SpaceX. أثناء حديث الرجلين حسابيس وماسك شرح ماسك خطته بأنه ينوي احتلال كوكب المريخ للهروب من مشكلة تضخم عدد سكان العالم! والأخطار الأخرى الموجودة على الأرض. أجابه حسابيس بأنه قد تنجح الخطة طالما أن الآلات فائقة الذكاء لم تلحق بالبشر على المريخ وتدمرهم أيضاً.
تفاجأ ماسك من هذا الرد وأدرك أنه لم يخطر له التفكير بذلك من قبل، فقرر أن يستثمر في الديب مايند .DeepMind
مع توفر التمويلات بغزارة وظفت شركة العقل العميق DeepMind باحثين مختصين في الشبكات الدماغية العصبية وكذلك الأولقاريزم المعقدة والتي تصنع على صورة دماغ بشري. وجب أن نقول إن الشبكة العصبية الدماغية هي بالأساس نظام رياضي ضخم يختصر أياماً، لا بل وشهوراً لإيجاد أنماط معينة من خلال معالجة بيانات ضخمة. انطلقت بداية مثل هذا النظام في خمسينيات القرن الماضي. هذه الأنظمة تكون ذاتية التعلم أو التعرف لتكون قادرة على التعامل مع مهمات محددة بشكل آلي. فبعد تحليل أسماء أو عناوين تظهر على مئات من أظرف البريد على سبيل المثال ستستطيع قراءة نص مكتوب بخط اليد.
أخذت شركة العقل العميق DeepMind الفكرة إلى أفق جديد إذ بنت نظاماً يستطيع تعلم لعب الفيديو الكلاسيكية (الأتاري) مثل لعبة غزاة الفضاء Space Invaders ولعبة بونق Pong وبريك آوت Breakout للبرهنة على الإمكانيات الجديدة.
أثار هذا الأمر اهتماماً لدى قوقل أحد اللاعبين الكبار في قرية السليكون فالي Silicon Valley وتحديداً السيد لاري بيج. فبعد أن رأى نموذجاً لآلة من تصميم العقل العميق تلعب بشكل آلي ألعاب الأتاري صمم على الانضمام إلى الشركة.