د.عبد العزيز سليمان العبودي
يمر اليوم العالمي للمذياع 13 فبراير هادئاً دون ضجيج، ولا احتفالات وأهازيج. فقد أنهى قرناً كاملاً من عمره، زاهراً بكل ما يمكن أن تسمعه الأذن. هذا العمر الطويل للمذياع جعله عرضة للتقاعد، بعد كل يوم ميلاد له، وبعد ظهور أي وسيلة إعلامية جديدة، يتوقع الخبراء أنها تحمل رصاصة الرحمة لهذا الصندوق العتيق. وقد توقفت شركة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بعد 85 عامًا من الانطلاق، عن إذاعتها الناطقة بالعربية بشكل دائم، وذلك إنهاءً لمرحلة مجيدة لتلك القناة، حتى وصل الأمر، بأن يسمي بعض المستمعين أبناءهم وبناتهم على أسماء المذيعين. وكانت إذاعة لندن أول محطة إذاعية من نوعها وكان أول بث لها في عام 1938 كجزء من خدمة الإمبراطورية البريطانية، لمواجهة الدعاية الإيطالية والألمانية قبل الحرب. وعلى مدى السنوات المقبلة، غطت المحطة على نطاق واسع الحرب العالمية الثانية، وأزمة السويس عام 1956، والحروب العربية الإسرائيلية، وغزو العراق، والاحتجاجات، والتغطية المستمرة للصراع في فلسطين. ويأتي إغلاق المحطة كجزء من خطوة لخفض تكاليف الإنفاق والتركيز أكثر على البرمجة الرقمية. حيث تتحول بي بي سي إلى إنتاج المحتوى الرقمي وسط فجوة تمويلية تبلغ 35 مليون دولار.
أصبح المذياع في الآونة الأخيرة مرتبطاً بالسيارة فقط، فقد خلعته البيوت عن طاولاتها، واستبدلته بالتلفاز وشاشات الإنترنت. وفي محاولة لتجديد دماء المذياع، تم استحداث البث الصوتي الرقمي DAB وDAB+ (داب) والذي بدأ البث التجريبي له في عام 1990، وتم إطلاقه للجمهور بعد خمس سنوات من ذلك. ومنذ ذلك الحين، تحسنت تكنولوجيا البث الرقمي، فتم استخدامه في أوروبا وأستراليا، وأجزاء من إفريقيا وآسيا. وقبل أشهر، أطلقت هيئة الإذاعة والتلفزيون السعودية نظام البث الإذاعي الرقمي، لمواكبة التطور التكنولوجي والتحول الرقمي. ولذلك ألزمت هيئة المواصفات والمقاييس السعودية جميع وكلاء السيارات ابتداء من موديلات هذه السنة بإضافة نظام البث الإذاعي الرقمي، كمواصفة جديدة للراديو. وتعد النرويج الدولة الأولى التي نفذت إيقافًا لراديو FM على المستوى الوطني، مع آخرين يتبعون ذلك في السنوات القادمة. ويعتبر البث الإذاعي الرقمي، بشكل عام أكثر كفاءة في استخدامه للطيف، من الراديو التماثلي FM، وبالتالي يمكنه تقديم المزيد من الخدمات الإذاعية لنفس عرض النطاق الترددي المحدد. ويمكن لمهندس الإذاعة، تحديد جودة الصوت المناسبة، من إشارات عالية الدقة للموسيقى إلى إشارات منخفضة الدقة للأخبار. أما في الولايات المتحدة فلم يتم تبني (الداب)، بسبب مساحتها الجغرافية الكبيرة، وذلك لأن أجهزة الإرسال اللاسلكية (داب) لها مدى قصير، أقصر من FM لذلك فإن بناء شبكة من أجهزة الإرسال ذات تغطية مماثلة لشبكة FM الموجودة، سيتطلب عدداً كبيراً من أجهزة الإرسال، وهذا سيكون مكلفاً للغاية. وهذا هو السبب في توجه الولايات المتحدة الأمريكية إلى المذياع عبر الأقمار الصناعية ومذياع الإنترنت بدلا من (الداب).
ومع ذلك، ورغم هذا التطوير والتحسين لبقاء المذياع على قيد الحياة، فهل يساعد على ذلك الأجيال التي تربت على اليوتيوب والبودكاست؟ فقد يلفظ المذياع أنفاسه مرغما، حتى بعد الصعق الإلكتروني من الداب وغيرها. وبعد ذلك فلن تكتفي الصورة (السيارة) بخلع عشيقها البرواز (المذياع)، ورميه في متاهة النسيان، بل ستخلع من ولد معها، وترعرعا سوياً، ولطالما رقص المهندسون على خطواته الأربع والست والثمان، وطرب على إيقاع صوته السائقون، وهو محرك الاحتراق الداخلي. فلن يحترق من وجدها بعد ذلك أحد، ولن يتعلق برافعة، ليتم توضيبه لها، وتصفية قلبه من أجلها، وكأنه ذبيحة مرفوعة، تنتظر مكانها داخل الفرن.