أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
أتذكّر الحكمة القديمة السائدة؛ بأن: «بيت الرجل هو قلعته»، فلا يستطيع أحد أن يدخل هذه القلعة الحصينة بدون موافقته، وقبل اختراع الهاتف لم يحاول أحدٌ ذلك.
ولكن خلال السنوات القليلة الماضية، تعرّض منزلي للغزو، من مواكب متتابعة من مندوبي شركات النظافة، وبائعي السيارات، والمصوّرين، وممثّلي مبيعات الأجهزة المنزلية.. والقائمة يمكن أن تطول وتطول!
اعتاد رجل المبيعات في الماضي أن يصل إلى صالة المنزل الأمامية، إذا قُمت بدعوته للدخول، ولكن في الوقت الحاضر، لا توجد غرفة في المنزل لا يمكن اقتحامها بواسطة الهاتف!
حدث أن استيقظت من قيلولتي، وقوطعت أثناء إعطاء طفلي زجاجة الحليب، وقفزت من المغطس بصفة عاجلة.. لأستمع إلى صوت سيّدة تخبرني عن مميّزات مكنسة كهربائية، أملك مثلها من قبل.
أو: «صباح الخير يا سيّدتي، اتّصلتُ لإخبارك عن خدمة مدهشة، يسعدنا أن نقدّمها لعائلتك.. إن مغسلة الثلج الأبيض تعرض عليك سعراً مخفّضاً هذا العام، على طلبات تنظيف الملابس».
بعد ولادة طفلي بثلاثة أشهر، أخذ الهاتف يرنّ عدّة مرّات في الأسبوع، والمتّصلة تقول: «أنا فلانة من إستوديو الفنّ، هل قمت بالتقاط صوَرٍ لطفلك بعد»؟
«نيويورك» مدينة كبيرة مليئة بمصوّري الأطفال، وأنا متأكّدة أن كلّ محلّ منهم قام بالاتصال بي مرّة واحدة على الأقل!
لقد وجدتُ أن عادة اقتحام المنازل هاتفياً، تؤذي ربّات البيوت سواء في المدن الكبرى أو البلدات الصغيرة، وبما أني أعمل في مجال الكتابة ومهنتي هي الفضول، فقد أثارت هذه العادة اهتمامي. ولو أن الجميع يتضايقون من هذا الإزعاج، فإن البيع بواسطة الهاتف لن يكون مُربحاً. ومع ذلك، وبما أن كثيراً من الشركات لا تزال تتسابق في استخدام هذه الطريقة، فلا بدّ أنهم وجدوها على النقيض!
فملايين الاشتراكات في المجلّات، على سبيل المثال، تمّت عن طريق الهاتف في العام الماضي، وعلى هذا فقِسْ.
إن أول شيء تعلّمته عن هذا الهجوم الصارخ على الخصوصية، أنه مدروس ومبرمج من قِبَل خُبراء في التسويق والمبيعات، الذين اكتشفوا أن التواصل مع الزبائن المحتملين يزيد بأكثر من عشرة إلى خمسين ضعفاً، بحسب الخدمة والمنتج، فيما لو حاولوا الوصول إليهم وجهاً لوجه.
كذلك فإن المكالمة تُجرى بطريقة ممنهجة، تتبع قواعد ثابتة، وتبدأ من تكرار اسمك خلال المحادثة، لإشعارك بالأهمية وجعلك تحسّ بأن شيئاً شخصياً تمّ تقديمه لك فقط في عرض البيع أو الخدمة.
وحتى أوقات الاتصال تمّ اختيارها بعناية، فالشركات تُدرك أنهم لو اتّصلوا بك بعد الظهر فربّما تكون خارج المنزل للتسوّق، وبعد الثامنة مساءً ربّما تكون خارجاً لمشاهدة فيلم سينمائي، ولذ فهم يفضّلون الاتصال من الساعة التاسعة صباحاً حتى الواحدة ظهراً، ومن الرابعة عصراً حتى الثامنة مساءً.
ومن الحيَل المتّبعة من قِبَل مندوبي المبيعات الهاتفية، أنه من النادر عند الاتصال أن يقول أحدهم: «أنا فلان من الشركة الفلانية، لأن هذا سيجعلك في موقع الحذر، إذا كنت أنت المجيب على المكالمة، وإذا كانت الخادمة هي المجيبة فإنك سترفض استقبال المكالمة. وبدلاً من ذلك فإن المندوب سيذكر اسمه فقط، واثقاً في الغموض اللحظي الذي سينتابك في محاولة تخمين هويّته، لإيقاعك في مصيدته!
أو خدعة ذلك المصوّر الذي أقنع سيّدة روسية نبيلة، أن تُعير اسمها ولقبها للإستوديو، حتى لو كانت في الواقع لا تعرف الفرق بين العدسة والوميض، ولكن هذا لا يهمّ.. فعندما تسأل الخادمة عن اسم المتّصلة، فالإجابة هي: أن «الأميرة بوبوف» على الخطّ، فتُقبل ربّة المنزل مُسرعة، ومزهوّة بالتحدّث إلى سموّ الأميرة!
ومما يزيد من استفحال مشكلة اقتحام الخصوصية، أن شركات الهاتف تطبع أدلّة هاتفية خاصّة، تحتوي على الأرقام والعناوين وبدون أسماء أصحابها، ولكن يمكن لمندوبي المبيعات من خلالها التعرّف على الأحياء التي يسكنها الأغنياء، فيصبحوا أهدافاً ثمينة سهلة.
كما أن هناك طبعات خاصّة أخرى من الأدلّة الهاتفية تشمل الأسماء والأرقام والمِهن، مما يسهّل الوصول إلى أصحابها من الموظّفين والمُدرّسين ومُلّاك السيارات والأرامل الثريّات.. كلّ تلك المعلومات مُتاحة مُقابل عشرين دولاراً لكلّ ألف اسم!
وما دامت هذه القوائم متوفّرة، فإن رجال الأعمال يقومون بتوظيف أعداد متزايدة من الشباب والفتيات، الذين يتحلّون باللطف والتهذيب ومهارات الحديث والإقناع، لبيع المنتجات والخدمات هاتفياً، مقابل عشرين دولاراً في الأسبوع، إضافة لعمولة كبيرة، عند إتمام الصفقات.
وفي المقابل، فإن شركات الهاتف تتعاظم أرباحها من بيع الأدلّة الهاتفية، وبيع المزيد من أوقات المكالمات التي تُجرى باستمرار من قِبَل مندوبي المبيعات لمنازل الزبائن المحتملين.
أخيراً، أنا لا أريد أن أكون فظّة، أو سبباً لقطع أرزاق الشباب والفتيات الذين يعملون بهذه المهنة ويحاولون كسب معيشتهم بهذه الوسيلة، ولكني مُجبَرة على النصح بأن أفضل الحلول، إذا كنت حقّاً لا تريد إصلاح مذياعك، أو لا ترغب في التقاط صوَر لطفلك؛ أن تقول للطرف الآخر من الهاتف بطريقة مُهذّبة: «لا»، وتضع السمّاعة في مكانها بهدوء.
** **
- الكاتبة: هيلينا هنتينجتون سميث - مجلة «ريدرز دايجست» - شهر نوفمبر 1937