عبد الله النجدي
يتحدث موم عن بداية ستندال في الكتابة: دوَّن ستندال في يومياته أسماء المسرحيات التي شاهدها ورأيه فيها، ومراراً وتكراراً كتب معلقاً إنه يستطيع بناء مسرحية خاصة به من مسرحية شاهدها للتو. يبدو أنه كان يفتقر إلى الأفكار، وبالتأكيد لم يكن شاعراً. كان مدركاً لـلهجته الريفية، وقد تكون رغبته في الشفاء منها دفعته لدخول المعهد المسرحي. وبمساعدة بيير دارو حصل على منصب في الميرة، وعُين في برونزويك. لقد تخلى عن فكرة الكتابة للمسرح، وقرر اتخاذ مهنة له في دواوين الدولة، وتصور نفسه باروناً في الإمبراطورية، وفارساً مقلداً بوسام الشرف، وأخيراً والياً في مقاطعة براتب ضخم. لم تجلب له مساعيه الأدبية فيما بعد لا المال ولا الشهرة، إذ كان قد عاد إليه طموحه في أن يصبح كاتباً عظيماً،. وكان قد نشر في عام 1822 «مقالة في الحب» بيع منها خلال 11 عاماً 17 نسخة فقط. لم يكن ستندال كاتباً محترفاً، حتى إنه بالكاد كان رجل آداب، لكنه كتب على نحو متواصل، وكل ما كتبه كان حول نفسه تقريباً. وطوال سنوات دوَّن الكثير في دفتر اليوميات، وصلنا مقاطع كبيرة منها، ومن الواضح أنه كتبها من دون أن يكون في نيته نشرها. وفي خمسينياته المبكرة كتب سيرته الذاتية (في 500 صفحة) وعلى الرغم من أنها لم تنقح، كان يرغب في أن تُقرأ. في هذه السيرة يتظاهر أحياناً بأهميته أكثر مما كان في الواقع، وأتخيل بأن القليلين قرأوا هذه النصوص التي ليس من السهل قراءتها نظراً لأنها ضعيفة جزئياً ومليئة بالتكرار. حين توفي تجشمت صحيفتان فرنسيتان عناء نشر الخبر. وبدا أنه سيصبح منسياً تماماً، وفي الواقع ربما كان سينسى لولا جهود صديقين قديمين نجحا في إقناع مؤسسة ناشرين مهمة لإصدار طبعة من أعماله الرئيسية. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الناقد سانت بيف كتب مقالتين عنها، إلا أن الجمهور ظل لا مبالياً بها، ولم تقرأ كتبه على نطاق واسع إلا بعد جيل. إن ستندال نفسه لم يشك أبداً بخلودها، ولكنه كان مستعداً للانتظار حتى عام 1880 أو حتى 1900 ليلقى التقدير الذي يستحقه. كم من كاتب عزى نفسه بسبب إهمال معاصريه بثقته بأن الأجيال ستعترف بمزاياه. لكن نادراً ما يحدث ذلك. فالأجيال مشغولة وغير مكترثة، وحين يهتم الخلف بإنتاج السلف الأدبي فإنه يختار الأعمال التي كانت ناجحة في زمنها. إنه احتمال ضئيل أن يُنقذ كاتب ميت ومنسي من خمول الذكر الذي أضناه أثناء حياته. وفي حالة ستندال، حدث أأحد الأساتذة أطرى في محاضراته في الإيكول نورمال أعمال ستندال، وكان بين طلابه بعض الشبان الأذكياء الذين حققوا شهرة فيما بعد، لقد قرأوا أعماله ووجدوا فيها شيئاً يناسب الجو الفكري السائد بين الشباب في ذلك الوقت، فغدوا معجبين متعصبين، والأقدر بين هؤلاء الشباب كان هيبوليت تين، الذي غدا بعد عدة سنوات رجل الأدب الأشهر والأكثر تأثيراً، وقد كتب مقالة شهيرة اعتبر فيها ستندال أعظم محلل نفسي في جميع العصور، ومنذ ذلك الوقت كُتب الكثير حوله، ومن المتفق عليه الآن هو أنه كان واحداً من الروائيين الثلاثة الأعظم الذين أنجبتهم فرنسا في القرن التاسع عشر. لقد ارتكزت شهرته على مقطع واحد من «مقالة في الحب»، وعلى روايتين «دير بارما»، وهي أكثر ملائمة للقراءة، وتتضمن شخصيتين آسرتين، ووصفه لمعركة واترلو جدير بالشهرة التي حظي بها. لكن «الأحمر والأسود» أكثر لمعاناً، وأكثر أصالة، وأكثر أهمية، ولهذا السبب قال زولا: إن ستندال هو أبو المدرسة الطبيعية في الأدب، وعده بورجيه وأندريه جيد مبدع الرواية السيكولوجية (هذا غير صحيح). كان ستندال مهتماً بنفسه أكثر من أي أحد آخر، وكان دائماً بطل رواياته، فجوليان في رواية «الأحمر والأسود» هو نوع من الرجال الذي أراد ستندال أن يكونه. إن من الغريب أنه باستثناء وصفه لمعركة واترلو، التي لم يحضرها، استخدم في روايته القليل من تجاربه حين كان في خدمة نابليون. ومن المفترض أن الأحداث الكبيرة التي كان على الأقل شاهداً عليها، أن توحي إليه بـثيمة تدعوه إلى معالجتها. سيتذكر القارئ أنه حين كان يريد أن يكتب مسرحيات بحث عن موضوعات في المسرحيات التي سبق أن شاهدها. يبدو لي أن ستندال لم يتمتع بموهبة ابتكار قصة من خياله، وقد أخذ حبكة رواية «الأحمر والأسود» من صحيفة نشرت محاكمة أثارت الاهتمام وقتئذٍ. وهي قصة شاب في كلية اللاهوت يدعى أنتوان بيرتيه كان معلماً خصوصياً في منزل م. ميشو، ثم في منزل م. دو كوردون. وقد حاول هذا الشاب أو أغوى زوجة الأول ثم ابنة الثاني فصرف من العمل. حاول عندئذٍ متابعة دراساته الكهنوتية، ولكن لم يُقبل في أية كلية بسبب سوء سمعته، فاعتقد أن آل ميشو هم المسؤولون عن ذلك، وانتقاماً منهم أطلق النار على السيدة ميشو أثناء وجودها في الكنيسة، ثم أطلق النار على نفسه. لكن الجرح لم يكن مميتاً فحوكم، حاول إنقاذ نفسه على حساب المرأة التعسة، لكن حكم عليه بالموت. جذبت هذه القصةالقبيحة والدنيئة ستندال، لقد نظر إلى تصرف بيرتيه كجريمة رائعة، لكنها تظل قصة دنيئة، ويظل جوليان الذي ابتكره ستندال في الرواية حقيراً. ومع ذلك فشخصية جوليان نابضة بالحياة، والرواية مثيرة للاهتمام. إن جوليان، العامل الشاب، الذي يستبد به الحسد والبغض لأولئك الذين ولدوا في الطبقة ذات الامتياز، يمثل نموذجاً نجده في كل جيل. وإليكم كيف وصفه ستندال لنا:«كان شاباً ضئيلاً في الثامنة أو التاسعة عشرة من عمره، ضعيفاً بملامح رقيقة وأنف معقوف، عيناه السوداوان الواسعتان اللتان توحيان في لحظات الهدوء بالتأمل والغضب، كانتا تشرقان في تلك اللحظات بتعبير الكراهية الأعنف، شعره الكستنائي الطويل جداً يعطيه جبهة ضيقة وفي لحظات الغضب نظرة شريرة….قوامه الأهيف المكتنز يوحي بالخفة أكثر من القوة». إنها ليست صورة جذابة، لكنها جيدة لأنها لا تجعل القارئ يميل سلفاً إلى التحيز لجوليان. وقد جعل ستندال بطله نذلاً لكيلا يجعل قراءه يتعاطفون معه أكثر مما ينبغي، ومن ناحية أخرى أراد أن يهتموا به، ولم يخاطر بجعله بغيضاً جداً، وهكذا لطَّف وصفه الأولي بالتركيز مرة بعد مرة على عينيه الرائعتين ومظهره الرشيق ويديه الناعمتين، ومن حين لآخر وصفه بالوسيم، لكنه لم ينس أن يثير انتباهك من وقت لآخر إلى الاضطراب الذي يُحدثه في الشخص الذي يتصل به، وإلى الارتياب الذي يرافق جميع من ينظر إليه، ما عدا أولئك الذين لديهم سبب يجعلهم حذرين منه.
مدام دورينال، أم الأطفال الذين استُخدم لتعليمهم، هي صورة جذابة لشخصية يصعب رسمها. إنها زوجة صالحة، وأم صالحة، وامرأة صالحة وفاتنة ومخلصة، وحكاية حبها المتنامي لجوليان، بما فيه من مخاوف وترددات، والذي غدا شغفاً ملتهباً، كل ذلك يدل على براعة فنان مبدع. إنها واحدة من أكثر المخلوقات تأثيراً في الرواية. والأرستقراطية ماتيلد دو لامول مثيرة للدهشة. لقد كره ستندال أسلوب الكتابة المتألقة بلاغياً، كان هدفه هو تدوين أي شيء عليه أن يقوله ببساطة وبدقة بقدر ما يستطيع، من دون زخرفة، من دون بلاغة منمقة أو إطناب تصويري، كان يتحاشى وصف المنظر وما إلى ذلك من الزخرفة التي كانت شائعة في زمنه، لقد تبنى أسلوباً بارداً جلياً منضبطاً يزيد ببراعة رعب القصة ويضيف إليها تشويقاً ساحراً. لا أرى أن الأجزاء التي تتعامل مع حياة جوليان عند آل رينال وفي كلية اللاهوت يمكن أن تكون أفضل، وعندما يتحول المشهد إلى باريس وإلى قصر المركيز دولامول أجد نفسي أميل إلى الشك، فالمؤلف يطلب مني أن أتقبل الكثير من الأمور بعيدة الاحتمال، وأكثر مما يمكنني استيعابه، وأن أستمتع بسلسلة من أحداث عابثة. لقد نجح ستندال في الكتابة بأسلوب واقعي، ومع ذلك لم ينجح في تجنب تأثير الجو النفسي في ذلك الوقت. كانت الرومانتيكية متفشية، وقد تأثر بها على نحو عميق، وبسبب هذا التأثر الرومانتيكي فشل النصف الأخير من رواية «الأحمر والأسود» في أن يكون مقنعاً، إن جوليان عندما يقترب من تحقيق طموحه باتباعه الخداع والكياسة وضبط النفس، يرتكب ستندال ما يمكن أن أعده خطأ كبيراً، لقد أخبرنا بأن جوليان ذكي وماكر، ومع ذلك يود أن يزكي نفسه أمام حموه فيطلب منه أن يكتب إلى مدام دو رينال، المرأة الفاضلة التي أغواها، لتزوده بشهادة حسن سلوك، ألم يخطر بباله أنها يجب أن تكرهه بسبب الأذى الذي ألحقه بها؟ وفي تلك الحالة ربما تريد الثأر لنفسها، أوأنها مازالت تحبه، وفي تلك الحالة فمن المرجح ألا ترحب بأنباء إقدامه على الزواج بامرأة أخرى، نحن نعلم بأنها امرأة حية الضمير، فمن المرجح أن يخطر بباله أنها قد تفكر بالكشف عن كونه يفتقر إلى المبادئ، وذلك هو ما فعلته، كتبت رسالة روت فيها الحقيقة الخالصة حوله، لكنه بدلاً من أن يفكر بما قالته ويعزو ذلك إلى سخط خليلة منبوذة، أخذ مسدساً وهرع إلى مكان وجودها وأطلق عليها النار، لم نحظ بأية تعليلات، لقد تصرف من دون تفكير، ونحن نعرفن ستندال يُكن إعجاباً مفرطاً بالتصرف المتهور الذي كان مظهراً من مظاهر الشغف، هذا حسن، لكننا علمنا منذ بداية الرواية بأن قوة جوليان تكمن على وجه التحديد في قدرته على ضبط النفس، ولم تتحكم فيه عواطفه، وفي ذروة أزمة الكتاب يقوم جوليان بعمل مميت مضاد لطبيعته.
لقد اتبع ستندال قصة أنتوان بيرتيه بدقة، والواقع هو أنه كان لديه قدرة ضئيلة على الابتكار، وهكذا أخفق في استنباط وسائل إنهاء كتابه بطريقة يستطيع القارئ قبولها كشيء محتمل. ولكن كما أشرت سابقاً، لا يوجد رواية كاملة، جزئياً بسبب القصور الطبيعي لشكل الرواية، وجزئياً بسبب عيوب الكائن البشري الذي كتبها. ومع ذلك تظل رواية «الأحمر والأسود» واحدة من أعظم الروايات التي كتبت، وتعد قراءتها تجربة فريدة.