د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
يخرج العالم من حروب مسلحة ويدخل حروباً باردة وساخنة، وتتأثر سلاسل الإمدادات، وقبل الحربين العالميتين، كان يحتاج العالم لتأمين سلاسل الإمداد أن تكون له سيطرة بحرية، ويحتاج للاستعمار من أجل السيطرة على سلاسل الإمداد، وعندما أصبحت الولايات المتحدة القوة المهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية أصبحت قادرة على حماية سلاسل الإمداد العالمية جعلها تتجه إلى تأسيس منظومة بريتون وودز لفتح أسواق العالم، كما نشطت العولمة بعد انهيار الحرب الباردة، أي أن العولمة كانت فرصة تاريخية سانحة استثمرتها الصين بدعم أمريكا والغرب عندما كانت الصين ساحة للنفوذ السوفيتي لتحييدها.
بدأت أزمة تجارية بين الولايات المتحدة والصين بعد صعود الصين إلى المركز الثاني بعد الولايات المتحدة، ما يميز أمريكا في نموذجها الاقتصادي أنها تعتمد على الاستهلاك الداخلي ولا تمثّل التجارة الخارجية لها سوى 15 في المائة، بينما النموذج الصيني يعتمد على التجارة الخارجية أكثر من اعتماد الولايات المتحدة، لذلك اتجهت الصين إلى إحياء طريق الحرير الذي يمر بنحو 70 دولة من أجل استدامة نموها الاقتصادي لتبقى قوة اقتصادية منافسة للولايات المتحدة.
نتج عن التنافس التجاري بين الولايات المتحدة والصين توترات ساخنة في البحر الأسود نتيجة الحرب في أوكرانيا من أجل تقليص اعتماد أوروبا على روسيا والصين لصالح الولايات المتحدة وبشكل خاص لصالح المنطقة العربية بقيادة السعودية، وتوترات في بحر الصين الجنوبي، وفي مضيق ملقا بين الفلبين والصين، إلى جانب انتعاش نشاطات قرصنة من جديد في الصومال وفي اليمن من قبل مليشيات الحوثي في البحر الأحمر، الذي يهدد الملاحة في مضيق باب المندب وقناة السويس بحجة الحرب في غزة، انعكست هذه الهجمات على تداعي سلاسل التوريد بحيث لا يصبح الشحن بعيد المدى ممكناً، ومن أخطر المفارقات أن سلاسل التوريد في العالم خصوصاً فيما يتعلق برقائق الإلكترونيات والحوسبة.
الجميع يستعد لليوم التالي من أمريكا والصين وأوروبا ومنهم السعودية التي تود إحداث ثورة في العملاق السعودي لتصبح ذات الذهب الأسود تضع التكنولوجيا المتطورة وعلى رأسها الرقائق الإلكترونية، باعتبار أن اقتصادها من الاقتصادات الصاعدة، تود استثمار الظروف الدولية المواتية، واستقطاب استثمارات ضخمة، خصوصاً بعد تغير نظرة العالم إلى الصين من محرك للنمو العالمي إلى استثمار بديل، بعدما استثمرت فيها الولايات المتحدة عندما كانت عرضة للنفوذ الروسي خلال الحرب الباردة، وزارها الرئيس نيكسون عام 1972 وعادت العلاقات عام 1979، وانخفاض صادرات روسيا إلى أوروبا بأكثر من الثلثين في 2023 .
لذلك تود السعودية استثمار مزاياها التنافسية في أن تكون محوراً إقليمياً لتوريد سلاسل التوريد والتجارة الإقليمية إلى جانب العالمية، في إطار تحالفات إقليمية إستراتيجية من أجل المساهمة في تبلور نظام عالمي جديد يعيد تقسيم العمل الدولي.
على مدى أكثر من قرن، أشعل التدافع على النفط حروباً، وخلق تحالفات غير عادية، لكن حاليا يتصارع أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم على مورد ثمين آخر هو أشباه الموصلات والرقائق، الذي جعل الولايات المتحدة تشدد القيود على مبيعات الرقائق الإلكترونية إلى الصين، باعتبارها مصدر الكثير من هذه التكنولوجيا، ولهذا السبب تبعد واشنطن بكين عنها، حيث تقع هذه الأجزاء الصغيرة في قلب صناعة تبلغ قيمتها 500 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتضاعف قيمتها في 2030، ومن يتحكم في سلاسل التوريد، وهي شبكة من الشركات والبلدان التي تصنع الشرائح، يحمل مفتاح أن يكون قوة عظمى منقطة النظير، ولن تكون السعودية خارج هذا السباق العالمي الجديد، الذي يدخل في كل المجالات التقليدية في صناعة السفن، والصواريخ، لكنه يدور بشكل متزايد حول جودة خوارزميات الذكاء الاصطناعي إيه آي التي يمكن توظيفها في الآلة العسكرية.
فحرب الرقائق تعيد تشكيل الاقتصاد العالمي، باعتبار أن تصنيع أشباه الموصلات معقد ومتخصص ومتكامل تماماً، يحتوي جهاز آيفون على شرائح تم تصميمها في الولايات المتحدة، وتم تصنيعها في تايوان أو اليابان أو كوريا الجنوبية، ثم يتم تجميعها في الصين، ويمكن للسعودية أن تلعب دوراً كبيراً في المستقبل، والاستفادة من علاقتها مع الجميع في عالم الاستقطابات الكبرى، حيث ثمة شركتان أمريكيتان فقط تنتجان الشرائح التي تشغل كبيوترات الذكاء الاصطناعي العملاقة هما أنفيديا وأي أم دي، وخصوصاً أن الصين جعلت من إنتاج الشرائح أولوية وطنية وتستثمر بقوة في أجهزة الكمبيوتر العملاقة والذكاء الاصطناعي ولحقت بالركب خصوصا في قدرات تصميم الرقائق، كذلك تريد الولايات المتحدة صنع المزيد من الشرائح بدلاً من الاعتماد على تايوان.
تنظر السعودية إلى الرقائق الإلكترونية على أنها تمثل أكثر من مجرد مكونات تقنية، بل تعد اليوم روحه التي تمنحه الوعي والوجود، وفي ظل أزمة أشباه الموصلات، لابد الذهاب إلى الحل مباشرة، ويأتي في مقدمتها شركة آلات السعودية التي أعلنت السعودية عن انطلاقها، وعند بيان تدشينها أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عن اهتمامها بهذا المجال في عالم تحكمه تقنيات بالغة الدقة، يتمحور تركيز السعودية حول صناعة شرائح عالية الأداء وأشباه موصلات تلبي احتياجات الصناعة المحلية من المكونات والأجزاء التي تلعب دوراً محورياً في تشغيل مجموعة واسعة من التقنيات.
كما تود الولايات المتحدة أن تستبق انفجار الطلب على الرقائق من الذكاء الاصطناعي، وتقليل الاعتماد المفرط على تايوان، كذلك تود السعودية أن تشارك في هذا السبق، وستعمل آلات السعودية على إيجاد 39 ألف فرصة عمل مباشرة وتصل مساهمتها المباشرة في الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي إلى 35 مليار ريال بحلول 2030 لدعم النمو الاقتصادي في السعودية.