د.عبدالله بن موسى الطاير
يتصدر الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المشهد العالمي باعتباره الأكثر تضرراً، فبالأرقام أكثر من 48 صراعاً مسلحاً تدور حالياً في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتنهش كيان نحو 12 دولة. بعض تلك الصراعات المسلحة ينخرط فيها عدد كبير من الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية، والتدخلات الأجنبية.
تأتي إفريقيا في المرتبة الثانية من حيث عدد النزاعات المسلحة، حيث يدور أكثر من 35 نزاعًا، وتشارك في هذه الصراعات جماعات مسلحة - تقاتل ضد القوات الحكومية و/أو ضد بعضها البعض. وفي آسيا، على الحدود الشرقية المتاخمة للشرق الأوسط، تستعر عدد من النزاعات الدامية.
لماذا تحول الشرق الأوسط من أرض الحضارات إلى أرض الصراعات؟ القضية معقدة ودقيقة، والسؤال ليس له إجابة واحدة. الشرق الأوسط يمتاز بتاريخ غني ومتنوع، بالحضارات القديمة، وأسهم بشكل كبير في التقدم العالمي في مختلف المجالات. الانزلاق إلى التبسيط، وامتطاء العاطفة في محاولة الإجابة عن هذا السؤال لن يأخذنا بعيداً في الاتجاه الصحيح، فكل دولة شرق أوسطية تتمتع بتاريخها الفريد ومشهدها الاجتماعي والسياسي والتحديات الخاصة بها. لكني أجتهد وأقول إن ما شهدته الدول الشرق أوسطية من تحولات في نظم حكمها أفقدها البوصلة وأربك مسيرتها التنموية، ولخبط أولوياتها، ففي الوقت الذي عصفت الناصرية والمشروع الغربي بالأنظمة الملكية باعتبارها أنظمة رجعية، وقُدمت الأنظمة الجمهورية على أنها المخلص، التقدمي، والطريق السريعة للاستقرار والتبادل السلمي للسلطة، سكب المروجون للتغير الوعود في أدمغة عامة الناس أنهم مشاريع رؤساء وحكام في ظل التحول من الملكيات إلى لجمهوريات، ومن البيعة إلى صناديق الانتخابات، ولكن سرعان ما وُئدت الأحلام وكرس الحكم في أحزاب قومية، أو في نخبة عسكرية، فكان التغيير شكلياً لم يمس الجوهر.
في المقابل، فإن نظرة سريعة على الدول التي احتفظت بأنظمتها الملكية العريقة لم تواجه ذلك الإرباك، فمنحنيات الأمن والاستقرار والتنمية فيها ومن ثم الازدهار مطردة، وعبرت تلك الدول الكثير من المآزق السياسية والاقتصادية والأمنية، التي ربما أثرت على مستوى الرفاه الاجتماعي، لكنها لم تمس مكونين أساسيين وضروريين للتنمية والازدهار وأعني الأمن والاستقرار. حافظت دول مجلس التعاون الست، والأردن والمغرب منذ تأسيسها، أو إعادة توحيدها، أو استقلالها على الأمن والاستقرار كممكنان للتنمية والازهار الاقتصادي، كل حسب موارده الذاتية.
الذين يتعاملون بسطحية أو بتأويلات رغبوية في تفسير استقرار الأنظمة الملكية يدفعون بثراء دول مجلس التعاون، ويجعلون منه الممكن الوحيد لاستقرارها ونمائها، ويلقون باللوم على الفقر والحاجة التي شتت شمل الجمهوريات الفقيرة، ومن هنا سارت الركبان بمقولة «نفط العرب» على أمل أن يكون فيه إنقاذ لحالة التردي التنموي التي تعيشها بعض الدول المتحولة. مقارنة موضوعية فيما يخص الموارد الطبيعية تجعل دول الخليج محدودة الدخل إذا ما قورنت بجمهوريات عربية تمتلك ثروات نفطية وغازية ومصادر مياه وأرض خصبة ومناخ موات لصناعة الأمن الغذائي، وهو ما تفتقده دول الخليج التي تعتمد في تنميتها على مصدر وحيد ناضب وهو النفط.
دول الخليج والأردن والمغرب خالية من الصراعات المسلحة، ومستقرة وآمنة. صحيح أنها تتمايز في رفاهية شعوبها والمقيمين فيها، والفضل هنا ليس للثروة، وإنما للحكم الرشيد الذي يدير الثروة.
الحكم الرشيد قد يأتي عن طريق صناديق الاقتراع في الدول الراسخة في الديموقراطية، والتي أحاطت هذا النوع من الحكم بسياج من المؤسسات التي تحميه وتسنده وتفرض الشفافية والمحاسبة والعدالة، وفي المقابل فإن العوائل الحاكمة تستند إلى تاريخ عريق متوارث في الحكم وسياسة الرعية، وهي قادرة عبر هذا الموروث على تحقيق مقتضيات الحكم الرشيد، وأثبتت في المملكة مثلا، منذ عام 1727م قدرتها على إدارة الدولة وتحقيق مصالح البلاد والعباد، ومنذ استقلال بقية دول الخليج عن التاج البريطاني وهي في تقدم مضطرد يبرهن على أن الحكم الملكي فارق أساس في حياة الدول وليس الثروات فحسب.
إلى جانب غياب الحكم الرشيد، لا يجب إغفال حقيقة أن بعض الصراعات في الشرق الأوسط مزمنة، أججتها الاختلافات الدينية والمذهبية، والتوترات العرقية، والتنافس على الموارد. كما أسهم فيها صعود وسقوط الإمبراطوريات، والتدخلات الاستعمارية، المظالم التاريخية والتنافسات الإقليمية، والصراعات الداخلية على السلطة، وفي العقود الأخيرة شهدت طبقات إضافية من التعقيد، بما في ذلك صعود الجماعات المتطرفة، وتدخل القوى الأجنبية، وغياب العدالة التنموية والاقتصادية.
ربما يكون المزيد من التأمل والبحث، والتواضع في مقاربة أزمات الشرق الأوسط، وفهم الديناميكيات التاريخية والسياسية والاجتماعية داخل كل بلد، أمر بالغ الأهمية لفهم التعقيدات التي تسببت في الصراعات المسلحة، وستتسبب في المزيد منها مستقبلا. إن الحلول الممكنة والتي لم تجرب بعد يجب أن تنتج داخل هذه المنطقة، عبر حوارات وطنية متعمقة، تتضمن إجابات للأسئلة الصعبة والمحرمة.