منصور ماجد الذيابي
أود أولاً, وقبل الخوض في تفاصيل المقال أن أوضّح للقرّاء تعريف الاختصار في اصطلاح اللغة, وهو تقليل المباني مع إيفاء المعاني, أي تخفيض عدد المفردات مع توضيح معاني الكلام, بمعنى أن يتم طرح الأفكار بأسلوب مختصر يخلو من التفاصيل الدقيقة ويبتعد عن سرد الكثير من الأمثلة والأدلة غير المتصلة بالفكرة الرئيسية. والاختصار هو مصدر اختصر الكلام إذا أوجزه بحذف شيء منه. وهو مفردة مرادفة للإيجاز, أي بيان المعنى المقصود بأقل عدد ممكن من الألفاظ دونما حذف مثلما نسمع دائماً في القنوات الإخبارية عن العبارة الاستهلالية «موجز لأهم الأنباء».
أما مفهوم الاختصار في الثقافة العربية, فهو أن يتجنب المتحدث أو الكاتب الإكثار من عدد الكلمات لتفادي الوصول إلى مستوى حدوث الثرثرة, وكذلك الابتعاد عن الاستدلال بالتفاصيل المُملّة التي يعتمد عليها الإنسان في محاولة منه أو منها لإطالة أمد الحديث إلى أقصى حدٍّ ممكن بهدف السيطرة والهيمنة على الوقت المتاح, ولفت أنظار الحضور في المجلس أو في مقر التجمّع الذين قد ينتابهم فيه شعور بالنعاس ونفور من الكلام بسبب استدلال المتحدث بالتفاصيل الدقيقة الملوّثة لأجواء التّجمع والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى استهلاك الوقت المحدّد نتيجة لخروج المتحدث عن مسار النص الأصلي أو الابتعاد عن الفكرة الرئيسية قيد المحادثات والنقاشات الاجتماعية ما يسبب التشتت الذهني وبالتالي حدوث الملل والتذمّر في أوساط الحاضرين, ثم الاتجاه فيما بعد نحو فضِّ الاجتماع دون التوصل إلى قناعات مشتركة بين الحاضرين والمشاركين في موضوع النقاش قيد التداول. وهنا أتساءل كما قد يتساءل آخرون عن الأسباب التي تدفع الإنسان العربي وغير العربي لما يمكن وصفه بإطلاق زخّات هائلة من الحروف والكلمات بغية التعبير عن أفكار محددة يمكن إيصالها للمستمع أو القارئ بأقل عدد ممكن من الكلمات, وفي مدة زمنية وجيزة لا تتجاوز خمس دقائق لكل فكرة أو خاطرة. وربما نتساءل حول ما إذا كانت أسباب تفشي ظاهرة فرط الكلام تعود إلى خلل فسيولوجي أو نفسي قد يتطلب إجراء بحوث ودراسات علمية لتشخيص حالة فرط الكلام, وإجراء تجارب مخبرية لأجل التوصل إلى علاجات أو لقاحات يمكن أن تجعل كثير الكلام شخصاً محبّاً للاختصار ومعبّراً عن الأفكار بعدد قليل من الألفاظ والإيماءات. قد يكون هذا الاقتراح غير مبالغ فيه إطلاقاً, لا سيما ونحن نسمع في أحيان كثيرة عمّن يصرخ فجأة بصوت مرتفع, ويقول بلهجة محلية للمتحدّث: «عطنا الزبدة», أي اختصر الموضوع واكشف لنا عن أفكارك بدون أية تفاصيل مملّة وخانقة ومزعجة ومستهلكة للوقت. كما ونسمع أحياناً عمّن يقول باللهجة المحلية الهندية: «صديق أنت قرقر كثير», في إشارة لسرعة إطلاق كميّة مفردات مهولة من أفواه الجاليات الهندية والبنغالية وحتى العربية المصرية, ذلك أن كلمة «قرقرة» تستخدم لغوياً على وزن «ثرثرة وبربرة وبلبلة» لتعكس مدى ميول الشخص تجاه بث آلاف الألفاظ للتعبير عن أفكار يمكن التعبير عنها وإيصال مضمونها ومعناها بعشرات أو بمئات الكلمات البسيطة وغير امركبة.
ولهذا ومن أجل إضفاء أجواء مريحة خلال عملية التحدّث أمام حشد أو مجموعة من البشر في المناسبات الاجتماعية وفي المجالس العامة والتجمّعات الأسرية الخاصة, أرى أنه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار التّحدث باختصار من أجل تجنّب الملل عند المستمعين, ولأجل تجنّب الوقوع في أخطاء تجاه الآخرين إذا ما انزلق اللسان وفقد المتحدّث السيطرة على سيل الكلمات أثناء السماح لها بالخروج اللفظي الأمر الذي قد يسهم في نشوب حرب كلامية قد تتطور إلى اشتباك بالأيدي كما أوضحت في مقال سابق بعنوان «قواعد الاشتباك اللفظي».
كما أرى لو أن يتم فرض ضريبة مالية على كل من يرغب في تجاوز العدد المسموح به لرقم معيّن شهرياً من المنشورات في وسائل التواصل الاجتماعي, وكذلك الطرد والإبعاد من المجالس والاستراحات والمناسبات لكل من يجنح إلى إطالة أمد الحديث ويتجاهل أهمية الاختصار في تقديم الأفكار حفاظاً على الوقت المتاح من ناحية وتفادياً لوقوع اشتباكات لفظيّة لا تحمد عقباها ولا يعرف مداها.
و أخيراً, وتطبيقاً لمقولة «خير الكلام ما قلّ ودلّ» فإنني آمل أن أكون قد تمكنت من الاختصار في عرض فكرة المقال لجمهور القرّاء بأقل عدد ممكن من الحروف والكلمات.
قال أبو العتاهية في الصّمت وتجنّب كثرة الكلام:
يَخوضُ أُناسٌ في الكَلامِ لِيوجِزوا
وَلَلصَمتُ في بَعضِ الأَحايِنِ أَوجَزُ
إِذا كُنتَ عَن أَن تُحسِنَ الصَمتَ عاجِزاً
فَأَنتَ عَنِ الإِبلاغِ في القَولِ أَعجَزُ
وقال أيضاً:
إِن كانَ يُعجِبُكَ السُكوتُ فَإِنَّهُ
قَد كانَ يُعجِبُ قَبلَكَ الأَخيارا
وَلَئِن نَدِمتَ عَلى سُكوتِكَ مَرَّةً
فَلَقَد نَدِمتَ عَلى الكَلامِ مِرارا
إِنَّ السُكوتَ سَلامَةٌ وَلَرُبَّما
زَرَعَ الكَلامُ عَداوَةً وَضِرارا
ويقول الإمام الشافعي عن الصمت والإيجاز:
وَجَدتُ سُكوتي مَتجَراً فَلَزِمتُهُ
إِذا لَم أَجِد رِبحاً فَلَستُ بِخاسِرِ
وَما الصَمتُ إِلّا في الرِجالِ مُتَاجِرٌ
وَتاجِرُهُ يَعلو عَلى كُلِّ تاجِرِ