فضل بن سعد البوعينين
باتت جهود هيئة الرقابة ومكافحة الفساد أكثر عمقاً وكفاءة في مواجهة قضايا الفساد وباحترافية عالية، ما انعكس إيجاباً على مخرجاتها في حماية المال العام، واستعادة الأراضي الحكومية المنهوبة، التي ناهزت مساحاتها مساحة بعض الدول. تمكين الهيئة، ودعمها من سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أعطاها القوة التي تحتاجها لمباشرة القضايا الجنائية وتقديم مرتكبيها للعدالة، بغض النظر عن مكانتهم الاجتماعية أو صفتهم الاعتبارية.
دورٌ مهمٌّ وفَعَّالٌ تقوم به الهيئة لتحقيق متطلبات النزاهة، وتحويلها إلى ثقافة عامة تحكم المجتمع وهو أمر لا يمكن الوصول له إلا من خلال جهود الرقابة ومكافحة الفساد أولاً، ثم تعزيز الحوكمة، وتصحيح علاقة المسؤولين والموظفين بجهات عملهم ومسؤولياتهم وحدود صلاحياتهم، ونشر ثقافة النزاهة في المجتمع، ومنظومة التعليم وبما يسهم في بناء جيل جديد يؤمن بضرورتها في التعاملات المالية والإدارية والعلاقات الإنسانية.
شكّلت إعلانات الهيئة المتكررة عن مباشرة قضايا فساد في الوزارات والهيئات والقطاعات المختلفة، وصدور أحكام شرعية ضد مُدانين سعوديين ووافدين، مؤشر قياس لكفاءتها، ونجاحها في حماية المال العام، ومحاربة الفساد، والسعي للقضاء عليه، وتطهير المجتمع من آثاره الخطيرة، وتبعاته على الدولة، ومستقبل أجيالها.
وبالرغم من أهمية تلك النتائج المتميزة، ومساهمتها المباشرة في تجفيف مستنقعات الفساد الآسنة، إلا أن ظهورها في جهات حكومية حديثة الإنشاء، ربما زاد من تحديات هدف تعزيز النزاهة في المجتمع.
فإذا كانت عمليات الرقابة ومكافحة الفساد هي الأهم في الهيئات والجهات الحكومية القائمة منذ عقود طويلة، فمن المفترض أن تكون النزاهة قاعدة العمل في الجهات الحكومية حديثة الإنشاء، حيث البداية على قاعدة صلبة من المعرفة والتشريعات المنظمة للعمل الحكومي، والخبرات المتراكمة والحوكمة الجديدة والشفافية ووضوح الرؤية، ومتطلبات الرقابة.
ظهور قضايا فساد في جهات حكومية جديدة يزيد من تحديات نشر ثقافة النزاهة، كما أنه يطرح تساؤلاً حول قدرة الفساد على التغلغل العمودي والأفقي، وبما يسهم في خلق شبكة منظمة قادرة على تجاوز حدود منظومة العمل الرئيسة إلى منظومات أخرى، تحقيقاً لأهدافها الخاصة المتعارضة مع الأنظمة والقوانين. عدوى الفساد من معوقات النزاهة، ويفترض أن لا تحدث مع وجود الأنظمة الشفافة، والرقابة المشددة، والحزم والمساءلة، والبحث الدقيق، الذي يفترض أن يُعطي صك النزاهة المطلوبة لتحمل المسؤوليات الجسام.
استغلال النفوذ الوظيفي، والحصول على منافع شخصية تهمة تتكرر في كثير من قضايا الفساد، ما يتطلب الكثير من العمل الرقابي والمراجعة الدورية التي يمكن من خلالها الحد من الفساد. المبالغة في العقود، واستئثار شركات محددة بها، من الأمور التي تحتاج إلى مراجعة دائمة لضمان تحقيق الحوكمة والتنافسية العادلة.
تشير بعض تقارير الأمم المتحدة إلى أن «الإنفاق المالي الهائل للحكومات يمكن أن يخلق فرصاً أكبر للفساد»، وهذه حقيقة ثابتة، فالإنفاق الضخم يحتاج دائماً إلى رقابة استثنائية محققة لمتطلبات النزاهة.
ركّزت رؤية 2030 على تحفيز بعض القطاعات الجديدة، ورفع مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، إضافة إلى خلق قطاعات لم تكن موجودة من قبل، ما استدعى ضخ ميزانيات ضخمة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، وبالرغم من أهمية الإنفاق الضخم لتسريع عمليات الإنجاز فيها، إلا أنه قد يخلق فرصاً للفساد المستتر، ما يستوجب التدقيق الدائم والمراجعة الدورية للتأكد من امتثال العقود لمتطلبات الحوكمة، والأنظمة، والرؤية الحكومية تجاه المشروعات المهمة. ومن جهة أخرى فبعض الأعمال والتعاقدات يصعب قياس تكاليفها بدقة، وهو أمر تعاني منه جميع دول العالم، ما يتطلب الكثير من العمل الاحترافي لقياس التكاليف العادلة بدقة، وربطها بالعوائد المرجوة منها.
نشر ثقافة النزاهة هو الهدف الذي نرجو الوصول إليه، وبما يحد من عمليات الفساد، ويعيد بناء المجتمع على قاعدة صلبة من النزاهة التي فرضها الدين الحنيف، قبل أن تكون هدفاً للجهات الرقابية، وهو هدف يحتاج إلى كثير من العمل الإستراتيجي بدءاً من التعليم بمراحله المختلفة، مروراً بالمجتمع الذي يقع عليه العبء الأكبر في نبذ الفاسدين لا الاحتفاء بهم، والإبلاغ عنهم وعن المخالفات بأنواعها، إضافة إلى الإعلام بوسائله الحديثة والتقليدية، ومنابر المساجد، والقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني. توحيد الجهود لمحاربة الفساد ونبذ الفاسدين هو القاعدة التي تنطلق منها ثقافة النزاهة.