د. أحمد بن محمد السالم
قبل حوالي ستة قرون وبالتحديد في عام 1446م استقطع ابن درع الحنفي أميرحجر اليمامة شيئا من ممتلكات آبائه وأجداده (حيي غصيبة والمليبيد) المطلة على وادي حنيفة لابن عمه مانع بن ربيعة المريدي وعشيرته المردة الذين عادوا إلى ديارهم في اليمامة من بلدتهم (الدرعية) الواقعة بجوار القطيف في شرق الجزيرة العربية. ومن هنا وضعوا اللبنة الأولى لتأسيس إمارة لهم على ضفتي وادي حنيفة المعروف بخصوبة أرضه ووفرة مياهه وبيئته العامرة، أطلقوا عليها الدرعية نسبة إلى لقب العشيرة(ابن درع).
تعاقب أبناء وأحفاد هذه العشيرة على إدارة شؤون الأهالي بالدرعية وتلبية احتياجاتهم في أجواء تسودها المحبة والوئام والأمن والرخاء، مما أكسبهم قبول وتأييد الأهالي واتساع نطاق إمارتهم، فاستمروا أمراء للدرعية لحوالي ثلاثة عقود، يزداد خلالها حشود المؤيدين والمناصرين لهم، وتولدت لديهم القناعة بإمكانية تأسيس كيان أكبر في الجزيرة العربية، ينضم تحت لوائه القرى والهجر المتبعثرة والمشتتة والقبائل المتناحرة والمتصارعة. وعليه أعلن أميرها الخامس عشر محمد بن سعود(المريدي) في 22-2-1727م، عن تأسيس دولة سعودية، أصبحت في ما بعد أكبر دولة في الشرق الأوسط، تجمع مابين الماضي التليد والحاضر المشرق والمستقبل الواعد، لها ثقلها السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية، تعانق الدول الصناعية في تطورها وتقدمها، لا تهزها الرياح ولا تثنيها الأحقاد، وأمن متين لا يتزعزع، ولحمة وطنية تجسدت عبر الأجيال، وكيان شامخ لا ينكسر أمام الصدمات. لذا أصدر مولاي خادم الحرمين الشريفين رجل التاريخ والثقافة والعلم أمراً ملكياً في عام 2022م، للاحتفاء بيوم التأسيس، ليذكر العالم أجمع بأن المملكة العربية السعودية لم تكن حديثة العهد بل لها جذور راسخة منذ القدم، والحاكم والمحكوم من نسيج المجتمع وبطانته، التحموا معاً في معارك الكفاح والنضال واختلطت دماؤهم لتوفير حياة معيشية كريمة آمنة لقاطني الجزيرة العربية، ولعل أصدق دليل على ذلك، ما عاشته الدرعية، العاصمة الأولى، في عهد الإمام محمد بن سعود وأبنائه من أمن وأمان ورخاء وازدهار، مناصرين لدعوة التجديد التي نادى بها الشيخ محمد بن عبدالوهاب- رحمه الله-، وباتت راية التوحيد ترفرف في كل مكان، فانتشرت المساجد التي باتت مدارس لتدبر القرآن الكريم وتعلم سنة المصطفى- صلى الله عليه وسلم-، وتم القضاء على البدع والخرافات، ونصروا الله فانتصروا، ولم تكن الدرعية منارة علم وفكر فحسب بل ملتقى للأئمة والعلماء ومنطقة جذب اقتصادي واجتماعي وثقافي، غنية بمناظرها الخلابة وطبيعتها الساحرة ومعالمها التراثية والحضارية.
وفي الوقت الذي وصف عثمان بن عبدالله بن بشر الدرعية «لقد رأينا الدرعية في زمن سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن سعود- رحمهم الله تعالى-، وما في أهلها من الأموال وكثرة الرجال والسلاح المحلى بالذهب والفضة وعندهم الخيل الجياد والنجايب العمانيات، والمدارس الفاخرة، والرفاهيات ما يعجز عن عده اللسان...» نلاحظ أن القبائل التي تعيش خارج أسوار الدرعية في حالة من الفوضى والفقر والجوع والاقتتال والتناحر، لا يكاد المرء أن يأمن على نفسه وماله وعرضه ودينه وعقله. والحال كهذه، اندفع الكثير من قبائل الجزيرة نحو الانضمام تحت حكم هذه الأسرة التي كلها خير وعطاء لرعاياها على مر العصور، ومصدر وئام وتآلف، ومأوى للمحتاج والفقير وسيف للعدل والإنصاف. فلا غرابة أن نجد الدولة السعودية الأولى في فترة زمنية محدودة (1727-1818م) استطاعت بسط نفوذها على كامل الجزيرة العربية وامتد نطاقها ليشمل أراضي الدول المجاورة بمساحة تزيد على مليوني كيلو متر مربع، بعد أن كانت في بدايتها لا تتجاوز مساحة الدرعية والمقدرة بحوالي 2000 كيلومتر مربع. وكما قيل: «إذا مات فينا سيد قام سيد»، فلم تمض ستة أعوام على انتهاء الدولة السعودية الأولى، حتى قام حفيد مؤسس الدولة السعودية الأولى الإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود من استعادة الملك ونقل العاصمة إلى الرياض واستمرت حتى عام 1891م.
وبعد عشر سنوات من الفوضى في الجزيرة العربية وعودة الانقسامات والصراعات ما بين القبائل، افتتح الملك عبدالعزيز- رحمه الله- الرياض في عام 1902م بحكمة ودهاء بالرغم من قلة العدة والعتاد، وبدأ مسيرة من الكفاح والنضال دامت أكثر من ثلاثين عاماً، تمكن خلالها من استرجاع كامل أملاك آبائه وأجداده، فوحد الأراضي الشاسعة المترامية الأطراف ولم شمل القبائل وحل الأمن محل الخوف، فأعلن عن قيام المملكة العربية السعودية في سبتمبر عام 1932م، والتي اليوم نعيش في كنفها، وبلغت أزهى وأبهى عصورها في عهد مولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين محمد بن سلمان بن عبدالعزيز- حفظهم الله-، دولة جمعت ما بين الأصالة والمعاصرة، فاليوم نشاهد العمارة السلمانية في كل مكان، يذكرنا بتراثنا العريق والطراز القديم ويبعث في أنفسنا روح الفخر والاعتزاز ببطولات آبائنا وأجدادنا، ويعزز اللحمة الوطنية ويكرس الولاء والانتماء لقادتنا ومملكتنا الحبيبة، ولم يغفل سمو سيدي ولي العهد رئيس مجلس الوزراء عن الأخذ بأحدث أساليب التقدم والتطور، لكي نساير الدول المتقدمة إبداعاً وابتكاراً، من خلال رؤية طموحة تتسم بأسس ومعايير التخطيط الناجح، قادرة بإذن الله على نقل بلادنا الغالية إلى مصاف الدول الصناعية العظمى بحلول عام 2030م. وبهذ المناسبة، نجدد عهد الولاء والوفاء للأسرة المالكة الكريمة، التي لها الفضل بعد الله في وجودنا وتأمين حياة كريمة لأبناء الوطن عبر القرون والسنين، سائلاً المولى عز وجل أن يحفظ هذه الأسرة وأن يديم عزها وتوفيقها، ليبقى هذا الوطن شامخاً، تتواصل فيه مسيرة البناء والنماء والازدهار.
** **
- نائب وزير الداخلية السابق