د.منصور بن محمد البلوي
إنَّ المُحدِّقَ في كتابات بعض الروائيين وحواراتهم ولقاءاتهم المقروءة والمرئية يلحظ أنَّ عددًا منهم يعاني من إملاءات بعضّ القُرَّاء الدائرة في فلك توجُّهاتهم الفكرية ونزعاتهم الوجدانية؛ فيرزح الروائيُّ حينها تحت هيمنة الجمهور وضغطه وتدخُّلاته التي تصل إلى المبنى الحكائيِّ بتقاناته وثيماته بل وحتى عتباته النصيَّة. وهذا النوع من القُرَّاء هم الذين تصبغهم (فرجينيا وولف) بلون الطغيان والاستبداد؛ حين تحدَّثت عنهم في كتابها «القارئ العادي» مشيرةً إلى رأي الدكتور جونسون في ذلك القارئ العادي (الفطري) الذي لا يملك ثقافة العلماء والنقاد وموهبتهم، وإنما يتغيَّا من قراءته المتعة لا المعرفة.
بيد أنَّ (فرجينيا وولف) وإنْ رأتْها النظرة العجلى تحتفي بالقارئ العادي وتتخذه عنوانًا لكتابها إلا أنها تراه في الآن نفسه سببًا في تبطيء حداثة الرواية بما يفرضه من قيود وحدود على الروائيين، وأنَّ هذا القارئ العادي لا يعدو أن يكون «طاغيًا قويًّا» يتطفَّل في تقديم التصميم الذي يراه مناسبًا للقصة. فكأنَّهُ إذًا يفرض على الروائيِّ طريقة تقديم الحكاية ومنظورها وصيغتها السردية، ونوعيَّة أحداثها وطرائق تقديم شخصياتها «كائناتها الورقيَّة» بما في ذلك أبعادها الأيديولوجية والسيكولوجية بل ومصائرها التي آلت إليها.
أو كما قال (وين بوث): إنَّ فرجينيا وولف ترى في ذلك القارئ العادي استعبادًا للروائي بإرغامه على تقديم حبكة وكوميديا وتراجيديا وحب وإثارة.
والحقيقة أنَّ ظاهرة تدخُّل القُرَّاء لا تفتأ تُحلِّق في فضاءات الرواية والروائيين، وقد أشار إليها غير ناقد، أمثال: (ديفيد لودج) حينما تحدَّث عن الضغط الذي يمارسه القُرَّاء والناشرون على الروائيين الفيكتوريين كي يؤطِّروا رواياتهم بنهاياتٍ سعيدة؛ ومن هنا كانت الفصول الأخيرة في الروايات تُسمَّى عند أهل الصنعة والنقد «جمع الشمل» ما يحيل إلى نهاياتٍ ذات بهجةٍ ورضًا؛ مما حدا بالكاتب الإنجليزي (هنري جيمس) أن يصف تلك النهايات - بنبرة لا تخلو من تهكًّمٍ وسخرية - بأنها لحظة اجتماع الأزواج والزوجات والأطفال، وتوزيع الجوائز والمعاشات، والتعليقات المبهجة.
ومهما يكن من شيء فإنَّ الروائيَّ لا ينبغي له الاستجابة المطلقة لإكراهات القُرَّاء واشتراطاتهم، اللهم إلا إذا وجدَ في التعليقات والآراء ما هو قمينٌ بالإفادة منه في أعماله اللاحقة؛ فلا ضير حينها أن يهتبل الفرصة ليُطوِّر أدواته الأسلوبية والرؤيوية على حدٍّ سواء.
أمَّا عدا ذلك فإنَّ الاستجابة لا تعدو أن تكون استلابًا وضياعًا لهُويَّته الكتابيَّة التي ينماز بها عن غيره؛ فيصبح حينها كأنه كاتبٌ (تحت الطلب) والكتابة كأنها أحد برامج (ما يطلبه القارئون) أو بحسب تعبير (أمبرتو إيكو) يستحيل الكاتب تاجرًا؛ إذ يقوم بما يشبه دراسة للسوق لكي يتكيف مع متطلباتها.
على أنَّ إيكو وهو الروائي والناقد السيميائي يبالغ في التقليل من شأن القُرَّاء العاديين وذائقتهم الانطباعية حين يرى أنَّ الرواية التي تحظى بمقروئية عالية واستحسانٍ جماهيريّ لا تُقدِّمُ شيئًا جديدًا، ولا يخفى أنَّ رأيه بل حكمه النقدي هذا إنما هو مقارنة بين جمهور القرَّاء وقارئه النموذجي الثاوي في ذهنه لحظة الكتابة، وهي مقارنة غير متكافئة ولا سيما أنها مُسيَّجةٌ بسياج النخبوية التي نرى أنها توارت إلى حدٍّ كبير في ظل العولمة والحداثة والانفتاح المعرفي.
وختامًا فإنَّ الروائيين والمبدعين بوجهٍ عامٍّ لا ينبغي لهم تعبئة أقلامهم برغبات الجمهور وأحبار المزاج العام، والنزول بكتاباتهم حدَّ التقليد والابتذال والانكشاف، كما لا ينبغي لهم في الآن نفسه التعالي على جمهور القُرَّاء والاستغراق في التجريب المُضلِّل، والاتكاء على جُدُر النخبوية الهشَّة المصبوغة بألوان الإيهام والتعمية والإلغاز.
** **
- كلية اللغة العربية والدراسات الإنسانية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.