د. حصة المفرج
كنا إلى وقت قريب نسعد كثيرًا إذا اكتشف أحدهم أحد أشباهنا الأربعين، نبدأ بالبحث عن مواطن الشبه، ونتأمله في الواقع إذا كان قريبًا، أو نبحث عن صور له، ثم نسأل المحيطين بنا: هل حقًا يشبهني؟ وتتفاوت الردود بين مؤيد ومعارض، وردود أفعالنا بين الاقتناع بالشبه، أو استبعاده أحيانًا، وأيًا كانت درجة الشبه، نفخر بخصوصية ما نشعر أنها تميزنا رغم توقعنا لوجود هؤلاء الأربعين وقد يزيدون أو ينقصون. لكن اليوم، لم نعد نبحث عن أشباه(أربعين) بل عن ملايين!
ومع ما تثبته لنا الوقائع من نجاح بعض عمليات التجميل، إلا أن نسبة الفشل تتفوق، عوضًا عن أن خروج شكل الإنسان عن مواصفات وتنسيقات معينة وضعها الخالق البارئ له-وهو أعلم سبحانه بخلقه-لن يظهر إلا بعض الجوانب الجمالية التي تنتج نسخًا متشابهة، لا نكاد نستبين الفرق بينها، لم تعد الوجوه تتباين في أشكالها (دائري، بيضاوي…) وأصبحت الأنوف نسخة واحدة مكرورة؛ حتى بات الأنف الذي يتباهى به العرب (سلة السيف) شكلًا غير مألوف، وتحول إلى شكل غريب يناسب خمسة في مقابل مئة ممن لا يناسبهم. حبة الخال، الغمازة، كانت سمات خلقية فأضحت مكتسبات صناعية، والحديث يطول...
هذا البعد الذي يركز على وجود النسخ المتشابهة، طرحته رواية (حرب الكلب الثانية) لإبراهيم نصر الله، في بعد(ديستوبي) متخيل لعالم المستقبل، الذي يصبح فيه البشر نسخًا متطابقة، والرواية صادرة في طبعتها الأولى عام 2016، وهو عام ليس ببعيد عن حضور هذا الهوس (التناسخ التجميلي). ونلمح إشارة من الكاتب إلى هذا التجانس بين الحاضر والمستقبل في عتبة فوقية وردت في حوار معه في صحيفة الوطن الإلكترونية، يقول فيها: (( حين تكتب رواية عن المستقبل ينبغي عليك أن تدرس أشياء كثيرة تم اختراعها حتى الآن وأن تتحسس رغبات البشر وتطلعهم لاختراعات جديدة مختلفة لم تنتج بعد وتخترعها أنت)).
ويرتبط هذا البعد الديستوبي بالمدينة الفاسدة، واستشراف المآسي التي تسبب الدمار، وصولًا إلى انتفاء إنسانية الإنسان، وهدم خصوصيته؛ ذلك أن الاستنساخ لا يستثني أحدًا، بل يصبح تشوهًا لا يمكن التحكم فيه، لا سيما أن هذا التشوه ومعه الاستنساخ، يرتبطان بفكرة إجراء عمليات جراحية؛ لإحداث التشابه (الاصطناعي)، حتى بات الشبه الطبيعي الوراثي نادرًا، ويبعث الأمل (( كان راشد الصغير يشبهه كثيرًا، ولكنه الشبه الطبيعي، الوراثي؛ وكم أراحه أن الشبه بالوراثة لم يزل فعالًا وقويًا، حتى تلك اللحظة!)) وفي موضع آخر ((أصبحت سلام الصغيرة أكثر شبهًا بأمها، وراشد الصغير أكثر شبهًا به، وذلك كله داخل مسار القوة الطبيعة لقوانين الوراثة)). ولم يعد الأمر يخضع لقانون التشابه الطبيعي في بعد آخر يرتبط بأفراد ليس بينهم قرابة ضمن مقولة (يخلق من الشبه أربعين) أيضًا.
وسرعان ما يتحول هذا التشابه الشكلي إلى تشابه داخلي، يطول السلوك والأفكار والذكريات وغيرها؛ لتبدأ الحيرة، ومعها تساؤل ملح: أين الأصل؟ وأين النسخ التي تشبهه؟ ويتطور الأمر إلى قتل النسخ المتشابهة بعد ترجيح العثور على النسخة الأصل، كما يتجلى الصراع بين النسخة الأصل والنسخ المقلدة؛ حتى لا تستبين حقيقتها للناظر إليها(( - تريد التخلص منه قبل أن يتخلص منك.
- ولماذا أتخلص منه أصلًا؟
- لأنك تشبهه.
- بل هو الذي يشبهني!
- بل أنت الذي تشبهه.))
وإن كان الوضع في مجمله يبدو مرعبًا؛ إذ إن التشابه التام/ التطابق يغدو مدمرًا للهوية الذاتية، ويتحول معه العلم، والإجراءات الطبية، ومعها المكتشفات الحديثة إلى وسيلة لهدم الخصوصية، كما أن عدوى التشابه هذه ليست حصرًا على مكان بعينه، بل هي-كما عبر عنها الراوي» بداية كارثة كونية». وانعكست هذه الكارثة على الأشياء المحيطة، والحيوانات، والنباتات؛ مما دفع للتساؤل المحاط بالدهشة: (( هل تعتقد أن هذا التشابه يمكن أن يتطور إلى هذا الحد؟)).
ولن يكون مستغربًا أن نجد نماذج أخرى من الروايات تستثمر هذه الفكرة بأبعادها المختلفة؛ لتصنع منها عالمًا تخييليًا موازيًا، لكنه يؤكد على الفرادة والاختلاف والتميز، وهي من أبسط حقوق الإنسان الطبيعي كما نعلم.
** **
- أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود.