د. شاهر النهاري
في مختلف مناطق الجزيرة العربية، وقبل قرن من الزمان، لم يكن من يكتبون ويقرأون إلا قلة يعدون على الأصابع في أرقى المجتمعات، وبنوع من الكتابة التواصلية بالخطابات وتوثيق الرهون والدين والوقف ومكاتبات الصلح والبيع وعقد القران وغيرها، والتي لم تكن في أغلبها إبداعية ولا مبنية على أصول البحث والتدوين الأدبي والتاريخي والإبداعي، ولا تثبيت المعلومات من خلال كتب، كون المراجع لمن دونوا، ولمن أتوا من بعدهم تنتهي عند مقولات أشخاص كبار في السن، ربما تكون ذاكرتهم حاضرة، وربما وكما يقال في المثل العسيري لمن لا يعرف من أين أتى بمعلوماته: «يأخذ من الشمس ويقتليها».
لا أحد يدقق ولا يقارن فنتجت مقولات وحكايات وسوالف سماعية من سرد فلان عن فلتان، وممن حضر الراوي، ومن قابل غريباً أتى من اتجاهات عديدة يحمل تراث البعد، فاستجمع وأعاد وحكا، وكل من تهتكت قصته في زاوية أو منحنى حاول لضم خرزاتها بركاكة خيوط التذكر، وربما التخيل والتأليف، أو الخلط، والترقيع بالظنون، وفي بعد عن ثقافات ثبوت الأثر والمخطوطات ويقينها.
أمر الحكايات العائم لم يكن فقط في الجزيرة العربية، فيكاد يكون شأناً سائداً في معظم أرجاء الدول العربية، والتي لم تكن معظمها بحال أفضل، وخصوصاً من جشم عليها ظلام الاستعمار، وحرمها التدريس والكتب والطباعة، فكانت المحفوظات إن وجدت مجرد أوراق مهلهلة وقصاصات عن التراث الديني المتناقل، والبعيد كل البعد عن قدرة التجويد والتجديد والبحوث، التي تتبع التسلسل وتنقي المعلومة، وتشرح التداخل وتفضه، وتكتب بطرق البحث العلمي المعتمد على المراجع، والنقاط المتأصلة في رسوخ التراث الشعبي، والحكايات، وعن أصولها ومكانية تواجدها، وهل هي إقليمية أصيلة، أم منقولة من خلال تواصل أو اختراقات من حضارات بعيدة، وبمقولة «علوم السعالا والوعالا».
الحكاية الشعبية في شقها الخرافي والأسطوري والملحمي المحكي في تراث الجزيرة العربية كانت غنية بالحِكَم والأهازيج، والأشعار، والخرافات، ولكن أغلبها منقول بتحوير أو تشويه أو إعادة تنسيق، تتعدد فيها البدايات والنهايات، وتختلف المعاني والأحداث والأسماء، وتتماهى مع التراث الشعبي في محاولات مقاربات بين خواص المكان والثقافة، ومع جذورها وفروعها، فيظل لكل حاكٍ زوائده وتأكيد أن نسخته أصيلة في كينونة قوميته ومكانه، لمجرد أنه حظي بسماعها في صغر سنه، وحتى لو كان الحكائون الناقلون بقايا رتوش من الجهات الأربع الأعمق في بؤن الزمان والمكنون.
كل حكاية شعبية أسطورية تتنامى وتنتشر في منطقة بعينها، وهي تختلف بمجرد النقل غير المكين، بين قرية وجارتها، وربما يصيبها التباعد عن منطقة أخرى من تخالط، وتشابه، يضاف إليها غرض وعقلية وخيال الحاكي، ولكن لا أحد يستطيع إثبات الأولوية ولا النقاء، ولا المحلية.
حكاياتنا الشعبية وأساطيرنا، تظهر بملابس غريبة عجيبة، كون أغلبها يأتي شبيهاً بما كان يقال في القصص العالمي الأسطوري المدون في الكتب الأجنبية، من الهند ومصر القديمة واليونان وفارس، واليمن والحبشة، ولو مع اختلاف الأسماء والشخوص، وتباين بعض الأحداث والنهايات والمدمجة مع أساطير أجنبية يتم إعادة توطينها بحسب تضاريس المنطقة ونوع المجتمع ومخاوفه، وسطوة المعتقد، فنسمع قصة حورية البحر وسندريلا تحكى بأشكال وأسماء ووقائع حسب الاختلافات الموجودة.
ونسمع قصص ألف ليلة وليلة، وأسطورة جلجامش، وحصان طروادة، والبعبع، وجزيرة الرخ، والعنقاء، والغول، ومملكة الجان، وشاة الليل، والأقزام السبعة، والمارد المسجون، والعبد المعذب، والباحث عن سر صنع الذهب، ومادة أكسير الحياة، وإرم ذات العماد، وأنف الطفل المستطيل، ومقطع الطين والطحين، وشبح الفتاة الشريرة الهندية «أخيري»، والمدينة الفاضلة في أثينا، وحكايات برج بابل والنمرود، وروبن هود، وما حيك عن تمثال أبو الهول ومعجزة تكوينه الحيواني الإنساني، قصص تخلط وتضرب وتطرح، وبما يختلف في المتن والرتوش، ونجد قصص سندباد بطلاً محلياً، وبالأسماء البديلة، وكذلك ما كان ينقل شفوياً عن حكايات الحيوانات الناطقة في كليلة ودمنة، والكل يحاول إثبات محلية قصته، وتخويف الصغار، وجمع أسماع الكبار يكون دوماً الهدف المنشود.
الأجواء الثقافية العربية الصحراوية الناشفة قديماً، وشبه انعدام الكتب والمكتبات، وقلة القراء سمحت للحكواتيين الشعبيين أن يصبحوا نخبة بما يرددون، وبما يفيضون بقصصهم، وقد امتلكوا القدرة على الكذب وتغيير الأحداث في جلسات السمر والمؤانسة، حتى يشعر السامعون أنها تخصهم، وتنبع من بيئتهم الضيقة.
معظم من كتبوا في عصرنا عن تراث الحكايات الشعبية، وأنا أحدهم، لم نجد أي مراجع يمكن التوقف عندها، ولا الوثوق بمعلوماتها، ولذلك كنا نعتمد على تناقل المشافهة، والبديهة، وحرية تغيير النهايات، وما يسمعه فلان في مجتمعه القديم، ليس كما يسمعه فلتان، وما يدور في قرية جبلية، غير ما تنتجه الكثبان، وما تحتويه السواحل غير ما يندثر أثره برحيل الركبان، والمشاعر والمعتقدات تستمر في حياة ونفسيات المتقاربين، كما في الخوف من الظلمة، ويقين الجن والعفاريت، وتجنب الأماكن المظلمة، والرماد، والجثاء والخرابات بما تهدم فيها، وقد تسكنه القطط الضالة، أو الكلاب السوداء، وكلها تظل تحيي في الأنفس الكثير من شجن الماضي وعجبه وتراث يتوارث من الحكايات الشعبية.
حديثي اليوم يجيب عن تساؤلات كثير ممن يدرسون التراث، ويحضرون الدراسات العليا في الحكايات الشعبية، ويطالبوننا بتقديم مراجع لحكايات وحنادي شعبية سردناها في كتبنا، وكان لا بد من اطلاعهم على الحال، والمحتال بكل شفافية، والمراجع تظل كما يقال: من عند جدي!