عبدالرحمن الحبيب
«أنت متأخر في السداد؟ لا، لن أقوم بحمايتك. في الواقع، أود أن أشجعهم على القيام بكل ما يريدون بحق الجحيم». هذه العبارات التي أدلى بها ترامب، الرئيس الأمريكي السابق، قبل أسبوعين وقال إنه أخبر بها ذات مرة زعيم دولة أخرى في الناتو أنه إذا فشلت في تحقيق هدف حلف الناتو للإنفاق الدفاعي بنسبة 2 % من الناتج المحلي الإجمالي، فإنه لن يقدم لمساعدتها إذا هاجمتها روسيا.
بغض النظر عن مدى جدية وعيد قيل في حملة انتخابية، لكن تأثيره كان صاعقاً على الأوربيين، بينما قال مارك روتي، رئيس الوزراء الهولندي، في 17 فبراير: «يتعين علينا أن نتوقف عن النواح والتذمر بشأن ترامب.. الأمر متروك للأميركيين.. علينا أن نعمل مع كل من هو على حلبة الرقص.» هذه ليست المرة الأولى لترامب فقد كان يلوح بالانسحاب من الناتو خلال فترة ولاية الأولى، وقد فكرت أوروبا بمثل هذه اللحظة لسنوات، ففي عام 2019، قال الرئيس الفرنسي ماكرون إن الحلفاء بحاجة إلى «إعادة تقييم حقيقة ما هو عليه الناتو في ضوء التزام الولايات المتحدة».
التساؤل عن مدى الالتزام الأمريكي بحماية دول الناتو، وفي ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية ودخولها سنتها الثالثة، دفع أوروبا إلى أخطر منعطف لها منذ عقود حسب مجلة الإيكونيميست في تقرير موسع، وتتساءل عمَّا إذا كان يتعيَّن عليها اجتياز هذه الأزمة دون حليفها منذ نحو 80 عامًا، ومدى حاجة الاتحاد الأوربي إلى استبدال المساعدات العسكرية والمظلة النووية والقيادة، وهنا نعرض لزبدة التقرير.
لكي تملأ أوروبا الفراغ الذي يخلفه غياب أميركا فإن ذلك يتطلب منها أن تفعل أكثر من مجرد زيادة الإنفاق الدفاعي، وذلك بأن تعيد النظر في طبيعة القوة العسكرية، والدور الذي يلعبه الردع النووي في الأمن الأوروبي، والعواقب السياسية البعيدة المدى المترتبة على التنظيم والبنية العسكرية لمواجهة التهديدات.
يقول الأدميرال روب باور، رئيس اللجنة العسكرية الدولية التابعة للناتو: «لا يوجد حالياً تهديد مباشر لحلف شمال الأطلسي.. الحلفاء يختلفون حول المدة التي ستستغرقها روسيا لإعادة تشكيل قواتها إلى مستوى ما قبل الحرب (مع أوكرانيا)، وسيعتمد الجدول الزمني على العقوبات الغربية.. ثلاث إلى سبع سنوات هو النطاق الذي يتحدث عنه الكثير من الناس.. لكن اتجاه الخط واضح.»
الجيوش الأوربية «نمر من ورق» حسب تشبيه التقرير، فرغم أن أغلبية أعضاء الناتو سيحققون هذا العام نسبة 2 % المطلوبة، فالمزيد من المال لا يكفي، ولم يسفر عن نمو يذكر في القدرة القتالية. وحتى عندما تتمكن أوروبا من إنتاج قوات قتالية، فإنها تفتقر غالباً إلى الأشياء (القيادة والسيطرة، الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، القدرات اللوجستية والذخيرة) اللازمة للقتال بفعالية ولفترة طويلة بالقدر الكافي.
ويتمثَّل أحد الخيارات في أن يقوم الأوروبيون بتوحيد مواردهم، لكن غالباً ما تفشل البلدان ذات الصناعات الدفاعية الضخمة - فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا - في الاتفاق على كيفية تقسيم العقود بين صانعي الأسلحة الوطنيين، فهناك اختلافات في طريقة بناء صناعة الدفاع. إن هذين التحديين - بناء القدرة العسكرية وتنشيط إنتاج الأسلحة - هائلان، فغالبًا ما يكون لدى البلدان أولويات تصميم مختلفة.
هناك تحدي آخر، إذ يثير حجم التغييرات المطلوبة أسئلة اقتصادية واجتماعية وسياسية أوسع نطاقا. ولن يكون من الممكن تحمل زيادة التكاليف العسكرية دون خفض الإنفاق الحكومي الآخر أو التخلص من الديون. كما يدفع نقص القوى العسكرية العاملة في أوروبا إلى مناقشات ذات أهمية مماثلة.
لعل أصعب قدرة يتعين على أوروبا أن تحل محلها هي تلك التي يأمل الجميع ألا تكون هناك حاجة إليها أبداً وهي استخدام الأسلحة النووية. فأميركا ملتزمة باستخدام أسلحتها النووية للدفاع عن حلفائها الأوروبيين، لكن الرئيس الأمريكي الذي يرفض المخاطرة بالقوات الأمريكية للدفاع عن حليف أوروبي من غير المرجح أن يخاطر بالمدن الأمريكية في تبادل نووي.
أحد الخيارات هو أن تؤكد بلدان الناتو بقوة أكبر على أن وسائل الردع الخاصة بها ستغطي الحلفاء.. مثل هذا الرعب له تاريخ طويل، والسؤال هو كيف يمكن جعل هذا الأمر ذا مصداقية. وفي مجال الردع، تتمثل القضية الحاسمة في كيفية جعل الخصوم - والحلفاء - يعتقدون أن الالتزام حقيقي، وليس مجرد لفتة دبلوماسية رخيصة يمكن التخلي عنها عندما تصبح المخاطر مروعة. يقترح برونو تيرتريس، الخبير الفرنسي عدة خيارات، لكن الأهم أنها قد تتطلب في النهاية «آلية تخطيط نووي مشتركة» حسب قوله.
في عام 1994 أعلن فرانسوا ميتران، الرئيس الفرنسي: «لن يكون هناك عقيدة نووية أوروبية، وقوة ردع أوروبية، إلا عندما تكون هناك مصالح أوروبية حيوية، والتي يعتبرها الأوروبيون كذلك، ويفهمها الآخرون على هذا النحو.. نحن بعيدون عن ذلك.» اليوم أصبحت أوروبا أكثر تقارباً، ولكن ربما ليست بما فيه الكفاية. إن نفس الشك الذي دفع فرنسا إلى تطوير قواتها النووية الخاصة في الخمسينيات من القرن الماضي متسائلة هل يمكن لرئيس أمريكي أن يضحي بنيويورك من أجل باريس؟ يتكرر داخل أوروبا؛ هل يخاطر ماكرون بتولوز الفرنسية من أجل تالين الإستونية؟