د. تنيضب الفايدي
معلومٌ أن أيّ أمّة إذا انقطعت عن الماضي أو تاريخها ستضيع أجيالها؛ لأنّ الإنسان في طبيعته يرتبط بجذور ماضي آبائه وأجداده، فإبراز الجوانب التاريخية للوطن الحبيب أمام الأجيال الحالية أمر ضروري للغاية؛ لأنها تعطي الثقة الكبيرة تجاه الوطن والاعتزاز به، ومن ثم ارتباط مواطنيها بقادتها ارتباطاً وثيقاً، فيوم التأسيس من أهم المناسبات الوطنية، فهو يوم مبارك.. حيث إنه احتفاء بتاريخ دولة وتعبير حقيقي للحبّ الذي يكنّه الشعب العظيم في قلوبه تجاه بلده والقيادة الرشيدة، وتظهر أهميته بأنه يذكّر الأجيال الحالية ما تحمّل من سبقها من المتاعب وما قدّم من التضحيات العظيمة لتوحيد المملكة ورفعتها، فهذه الإنجازات الهائلة في شتى المجالات ما هي نتيجة فترة قصيرة، بل رحلة يتواصل فيها الماضي والحاضر، حتى أصبحت من الدول الرائدة المؤثرة في السياسة والاقتصاد العالمي.
هذا التاريخ غيّر مجرى التاريخ في الجزيرة العربية كلّها من حالة الضعف والانقسام، والتفرق والتشتت، وعدم الاستقرار والأميّة وسوء الأمن إلى مجتمع حضاري متطور والتعليم والرخاء والأمن والاستقرار، فكلّ بناية تعلو اليوم وكلّ صرح يقام، ما هو إلا من إلهام يوم التأسيس.
وتعلّمنا قديماً بأن اجتماع القوة المعنوية مع اجتماع القوة المادية تكوّن الدولة، لذا نشأت الدولة السعودية الأولى على يد محمد بن سعود رحمه الله، ولعلّ قوة الحق مع العدل والعلم هي الأسس التي ارتكزت عليها ويذكرنا ذلك قول حبيب بن أوس الطائي (أبو تمام):
السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ
في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ
بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في
مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ
وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَةً
بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ
ففي هذا التاريخ و قبل ثلاثة قرون (1139هـ/ 1727م) أسس محمد بن سعود رحمه الله الدولة السعودية الأولى وعاصمتها الدرعية، ودستورها القرآن الكريم وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واستمرت إلى عام 1233هـ/ 1818م،ولم يمض سوى سبع سنوات على انتهائها، حتى تمكن الإمام تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود رحمه الله عام (1240هـ/ 1824م) من استعادتها وتأسيس الدولة الثانية التي استمرت إلى عام (1309هـ/ 1891م)، وبعد انتهائها بعشر سنوات قيض الله الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود رحمه الله عام (1319هـ/ 1902م) ليؤسس الدولة السعودية الثالثة ويوحدها باسم المملكة العربية السعودية، وسار من أتى بعده من أبنائه وأحفاده على نهجه في تعزيز بناء هذه الدولة ووحدتها.
وقد أنجز المؤسس الأول الإمام محمد بن سعود رحمه الله إنجازات عظيمة، من أهمها: الاستقلال السياسي وعدم التبعية لأي نفوذ، تنظيم موارد الدولة، دعوة البلدات للانضمام إلى الدولة السعودية، الاهتمام بالأمور الداخلية، توحيد الدرعية تحت حكمه، والإسهام في نشر الإسلام، وتقوية مجتمع الدرعية، مناصرة الدعوة الإصلاحية وحمايتها، بناء سور الدرعية للتصدي للهجمات الخارجية، الحرص على الاستقرار الإقليمي، توحيد معظم منطقة نجد.
ثم من أتى بعده من حققوا من الإنجازات الوطنية مالم يحققه زعيم آخر معاصر له ولا بعده، ونشروا الأمن والاستقرار وأصبحت طرق الحج آمنة فأصبح كلّ حاج في أمن وأمان حتى يرجع إلى أهله سالماً غانماً، بعد أن كان النهب والسلب والقتل شيئاً عادياً، وهذا ليس كان سهلاً كما نحن نفكر، بل عانى وواجه كثيراً من المصاعب في إرساء الأمن والأمان في هذه الجزيرة.
كما أنهم وضعوا كل إمكانات الدولة وبذلوا كل غالٍ ورخيص في راحة الشعب وفي سبيل نشر العلم ومحو الأمية والقضاء على الجهل والتخلف وتثقيف الشعب، بعد أن كان الجهل سائداً في عموم البلاد، وفي ذلك يقول الملك عبدالعزيز رحمه الله: «إذا نهض العرب مرة أخرى وأخذوا بقسطهم العلمي في سائر العلوم المادية، فإنهم لا يأتون ببدعة، بل يعتبرون محيين لعهد أجدادهم الذين ملكوا ناصية العلم حقبة من الزمن وقدموا للإنسان خدمات لا تنكر».
إن ذكرى يوم التأسيس يثير ويغرس في النفس حبّ الوطن، ويولد فيه الاعتزاز به والوقوف للدفاع عنه والتضحية له بكلّ غالٍ ونفيس، كما ينشر في أهله الوعي حول ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية، وذلك بالوقوف خلف القيادة وبالمحبة والسلام والتآخي فيما بينهم، وتتحول المواطنة بذلك إلى فعل وسلوك وأخلاق، كما تعمل على اكتساب المعارف والقدرات والقيم والاتجاهات لدى الطلاب والطالبات، بل وكلّ مواطن ومواطنة في أيّ موقع من أرجاء الوطن، إضافةً إلى إيجاد الروابط المتينة بين المبادئ الأخلاقية والقيم الوطنية ومهارات الحياة المعاصرة بكلّ مكوناتها.
إن الاحتفاء بهذا اليوم يرمز إلى العمق التاريخي والحضاري والثقافي للمملكة العربية السعودية ويأتي لاستذكار امتداد الدولة السعودية قبل ثلاثة قرون، من صعاب الأمس وتحدياته، وهو رسالة تذكرنا بحالة الفرقة والتشتت والتنازع التي كانت عليها البلاد، وكيف تمكن هذا البطل العظيم من إنهائها ومن ثم توحيدها، فهو يحفزنا جميعاً لاقتفاء الأثر والسير على ذات المسار، وذلك بالمحافظة على تلك الإنجازات العظيمة، وصناعة المستقبل، وتجاوز الصعاب، ومواصلة المشوار والارتقاء بالوطن العظيم بناءً وتعميراً، كما أن من الأهداف لإحياء هذه الذكرى الاعتزاز بالجذور الراسخة للدولة السعودية والاعتزاز بالوحدة الوطنية التي أرساها الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله وأيضاً الاعتزاز بإنجازات الملوك أبنائه من بعده.
إن يوم التأسيس يحقق التماسك والاندماج والتواصل وقوة الترابط بين أفراد الوطن، ليشكل ذلك نسيجاً واحداً مما يعطي الوطن الهوية التي تتميز بالقوة والمهابة، كما إن ذكرى يوم التأسيس بكلّ عناصره ومؤسساته ترسخ مفهوم المواطنة وتذكّر المواطن ما عليه من واجبات وحقوق تجاه الوطن، وكلها تهدف إلى تعزيز الفرد بالانتماء إلى مجتمعه، ووطنه، وقيمه ونظامه، وبيئته الثقافية، وتركز على القيم العليا مثل الأمانة والصدق، والإيثار، وتطبيق الخلق الرفيع في التعامل واحترام الآخرين بما في ذلك حقوق الوالدين واحترام آراء الآخرين، وأداء الواجبات، والتمسك بالحقوق والإيمان بوحدة الوطن، ويحمي إنجازات ومكتسبات الوطن، والمحافظة على استقراره.