د.عبدالحفيظ عبدالرحيم محبوب
لطالما كانت جغرافية شبه الجزيرة العربية ميزة للعرب في تجارتهم مع العالم، بقدر ما كانت القوى العالمية تتنافس في الهيمنة على ممراتها، لن تتنظر السعودية طويلاً حتى يضربها الطوفان، خصوصاً وأن العالم يدخل في طور حرب باردة كونية ثانية، لكنها هذه المرة تختلف عن المرة السابقة باعتبار أنها حرب في أساسها تجارية وليست فقط عسكرية.
لذلك تود السعودية بما تمتلكه من إمكانات أن تتموضع إقليمياً وشرق أوسطياً بل وعالمياً للتحول إلى قوة اقتصادية عظمى تستفيد من موقعها للتحول إلى مزود لسلاسل الإمداد العالمية بدلاً من الانضمام إلى حماية سلاسل التوريد العالمية باعتبارها الحلقة الأضعف في العولمة.
تثير طفرة صناعة السيارات في الصين غضب أوروبا حيث ذكرت المفوضية الأوروبية أن أسعار السيارات الكهربائية الصينية المبيعة في أوروبا عادة ما تكون أقل بنسبة 20 في المائة من العلامات التجارية المصنوعة في الاتحاد، وتبلغ حصة السيارات الصينية من السيارات الكهربائية المبيعة في أوروبا نحو 8 في المائة مع توقعات المفوضية الأوروبية بوصولها إلى 15 في المائة بحلول 2025.
ما يجعل الاتحاد الأوروبي يتجه نحو الحمائية، لكن الصين حذرت من أن يؤثر ذلك على العلاقات بين الجانبين بحجة أن السيارات الكهربائية الصينية تتلقى دعماً حكومياً، بينما أيضاً السيارات الكهربائية الأوروبية والأمريكية تجد دعماً حكومياً أيضاً، لأن السيارات الصينية ارتفعت من مائة ألف عام 2019 إلى 362 ألفاً في 2023، بينما السيارات الألمانية انخفضت من أكثر من ثلاثمائة ألف إلى مائتين وخمسين ألفاً، كذلك اليابانية انخفضت من أربعمائة ألف إلى 342 ألفاً.
هذا التطور شكل نهاية عقود من هيمنة شركات السيارات الأوروبية والأمريكية واليابانية والكورية على السوق العالمي، حيث يتوقع بنك يو بي إس أن تتحكم السيارات الصينية في نحو 33 في المائة من السوق العالمي بحلول عام 2030 مقابل 17 في المائة في 2022.
ما جعل شركة الاستشارات أليكس بارتنر تشير إلى الدعم الحكومي الصيني للسيارات الكهربائية والهجينة بلغ 57 مليار دولار في الفترة من 2016 و 2022، وهذا الدعم لا يقل عن الدعم الحكومي المقدم من الاتحاد الأوروبي والأمريكي للسيارات الكهربائية، حيث بلغ عدد السيارات الكهربائية المبيعة بأسواق العالم عام 2022 نحو 10.5 مليون سيارة بحصة 14 في المائة من إجمالي السيارات المبيعة في العالم ارتفاعا من 9 في المائة عام 2021 وأقل من 5 في المائة عام 2020، وفق بيانات وكالة الطاقة الدولية، أي أن عدد السيارات الكهربائية بلغ في 2022 نحو 26 مليون سيارة وسط 1.4 مليار سيارة تقليدية.
لذلك تخطط السعودية لتكون ضمن أكبر 5 منتجين مصدّرين لهذه الصناعة عالمياً، ووفق صحيفة فاينانشيال تايمز أن السعودية تعتزم إنتاج 500 ألف سيارة كهربائية بحلول 2030، ولفت تقرير الصحيفة إلى أن السعودية ستعمل على تعزيز قدرتها في هذه الصناعة، وفي نوفمبر 2022 أعلنت عن إطلاق أول علامة تجارية لشركة سير لصناعة السيارات الكهربائية في مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في ينبع بإنتاج أكثر من 150 ألف سيارة كهربائية سنوياً، إلى جانب مصنع لوسيد للسيارات الكهربائية المخصص 70 في المائة من إنتاجه للتصدير، وهناك عقود وُقعت مع كوريا الجنوبية وشركات صينية وأوروبية لإقامة مصانع سيارات في السعودية، وشركات لصناعة أجزاء السيارات وصناعة قطع الغيار والإطارات، وتشمل 13 مكوناً تدخل في مختلف مستويات سلسلة الإمداد، بدءاً بالمقاعد والإطارات وأنظمة التكييف والتدفئة، وصولاً إلى الزجاج وبطاريات الليثيوم والمحركات، وتولي شبكات التوريد التي تعد جزءاً مهماً لجدوى إقامة المصانع الرئيسية، وهذا ما يؤهل السعودية لتصيح مركزاً إقليمياً لصناعة السيارات ومكوناتها.
تولي السعودية في استراتيجيتها الصناعية الأولوية لنحو 12 قطاعاً من بينها صناعة السيارات، حيث يعتبر دخول السعودية في مجال صناعة السيارات مشروعاً منتظراً منذ عقود، لكنه بات الآن في صلب الاستراتيجية الوطنية للصناعة حيث تشكل السعودية والإمارات معاً 4.5 في المائة من السوق العالمية للسيارات، التي كانت تقارب الـ 90 مليون سيارة قبل الجائحة، لكن الاعتبار الاستراتيجي الأهم أن السعودية تدخل هذه الصناعة فيما يشهد القطاع عالمياً نقطة تحول، مع توسع صناعة السيارات الكهربائية والهجينة، ومن المتوقع بحلول عام 2030 أن تتراجع حصة السيارات التقليدية العاملة بمحركات الاحتراق الداخلي إلى 49 في المائة مقابل 30 في المائة للسيارات الكهربائية والهجينة.
تبدي السعودية جاهزيتها لإنشاء مناطق صناعية تقنية باعتبار المدن الذكية إحدى محركات النمو الصناعي ونشر التكنولوجيا والتنمية الصناعية المستدامة، لم تتوقف السعودية عند هذا الحد بل تعطي أهمية بالغة للمعادن الاستراتيجية والحرجة التي تساهم في التحول للطاقة التي يشهدها العالم من أجل توفير إمدادات سهلة ومستقرة للنهوض بالصناعة ليس فقط المحلية بل والعالمية لجعل القطاع ذا أثر حقيقي من الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية لتصبح السعودية منصة جاذبة للاستثمارات العالمية في صناعة السيارات، خصوصاً وأن البتروكيماويات ومشتقاتها تشكل نحو 50 في المائة من مكونات صناعة السيارات بما في ذلك الكهربائية مما يعطي السعودية ميزة نسبية تنافسية تشجع الشركات العالمية على فتح مصانع لها في السعودية.