م.عبدالمحسن بن عبدالله الماضي
1 - الثورتان الصناعية والفرنسية مفصلان من مفاصل التاريخ الحديث، فقد نقلتا العالم من سكون وثبات امتد لآلاف السنين إلى انفجار في التنمية والتقنية وحقوق الإنسان، مما جعل الإنسان يحقق في المائة سنة الماضية أضعاف ما حققه منذ الأزل.. ولا تزال عجلة التنمية والتقنية تسير بنقلات قافزة واسعة.
2 - الثورة الصناعية انطلقت في بريطانيا في أواسط القرن الثامن عشر ونقلت المجتمعات من الحِرف الزراعية الموروثة إلى أساليب جديدة في العمل أثرت بعمق في مستوى المعيشة.. حيث تم اختراع المكائن التي ساعدت المجهود الإنساني في الزراعة والنسيج والبناء والنقل.. كما تم اكتشاف الطاقة البخارية وبالتالي اختراع القطارات فتقاربت الأسواق، وحل إنتاج الجملة محل الإنتاج الفردي، وأصبح التصدير والاستيراد هو عنوان التجارة، وبدأت الهجرات من الأرياف إلى المدن طلباً لفرص العمل في المصانع والمتاجر.. واتسعت بالتالي طبقة العمال ونشأت الطبقة الوسطى.. كل ذلك ضخّم من حجم الاقتصاد وزاد من نشاط التبادل التجاري مع المدن والدول المجاورة.. هذا التحول استغرق القرن الثامن عشر بأكمله.. فقد كان متدرجاً بطيئاً لكنه أحدث هزات عميقة في علاقة العامة بنخب المجتمع ورجال الكنيسة وساسة الدولة.. ولم يكن لحقوق العمال حين ذاك وجود مؤثر، حتى انطلقت الثورة الفرنسية عام (1789م) فأشعلت شمعة حقوق الإنسان، وبدأ تنظيم مَطَالِب العمال في بريطانيا، فأصبح للعمال حضور وتمثيل في مجلس العموم البريطاني منذ عام (1884م).
3 - الثورة الفرنسية تعد حدثاً إنسانياً أكثر من كونها حدثاً فرنسياً لما نشرته من مبادئ كالحرية والإخاء والمساواة.. وإن كانت ولادتها ولادة عسيرة طويلة أريق فيها الكثير من الدماء، وامتد مخاضها طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ولم يتوقف إلا في القرن العشرين بحربين عالميتين قبل أن ينقضي نصفه.. كان المجتمع الأوروبي في أغلبيته ضحية هيمنة الكنيسة الكاثوليكية التي تملك ثلث الأراضي الزراعية في أوروبا، وسلطة الإقطاعيين مُلاَّك الأراضي الذين يتكئون على فتوى الكنيسة أن ما لديهم هو حق إلهي.
4 - انقسمت نُخب المجتمع ورجال الكنيسة في أوروبا إلى قسمين: قسم شديد الرجعية يتمسك بكل الامتيازات التي ورثها كحق إلهي، وقسم تحلى بروح العصر الحديث وتأثر بكتابات مفكري عصر التنوير كـ(منتسكيو، وفولتير، وروسو)، ومالوا إلى مبادئ العدل والمساواة حتى ولو كان فيها ضياع لبعض امتيازاتهم.. في عام (1762م) صدر كتاب «العقد الاجتماعي» للمفكر «جان جاك روسو» والذي عُدَّ «إنجيلاً» للثورة الفرنسية، وكان لأفكار الكتاب مفعول السحر في النفوس.
5 - في (16 يونيو 1789م) نشبت أزمة في فرنسا بين العامة من ناحية ورجال الدين والإقطاعيين من ناحية أخرى.. مما جعل أحد نواب العامة واسمه (سييس) يقترح إطلاق اسم «الجمعية الوطنية» على النواب المعارضين.. وأن يقدموا أنفسهم باسم نواب الشعب، ويبدأون في كتابة الدستور الفرنسي الجديد.. واستمر الشد والجذب بين من أسموا أنفسهم نواب الشعب من جهة والإقطاعيين ورجال الدين من جهة أخرى، ثار خلالها العامة عدة مرات وفي أحدها سقط سجن فرنسا الشهير (الباستيل).. مما جرأ العامة في بقية المناطق على الهجوم على قصور الإقطاعيين ونهبها.. وفي يوم (1 يناير 1793م) صدر الحكم بإعدام ملك فرنسا وعائلته.. بعدها قامت محاكم الثورة في الأقاليم ودفعت بآلاف الناس نحو المقصلة بتهمة الخيانة العظمى، وأصبح الشعار السائد في تلك المرحلة «أرسل أعداءك إلى المقصلة قبل أن يرسلوك إليها»!
6 - رغم المآسي والتجاوزات اللا إنسانية التي حصلت في فرنسا إلا أن الثورة الفرنسية خرجت ببيان اتخذته بقية الشعوب الإنسانية نبراساً لها نحو إرساء حقوق الإنسان.