د.محمد بن عبدالرحمن البشر
السيدة قطر الندى تحدث عنها المؤرِّخون وأصبحت رمزاً للبذخ والجمال، حتى إن المطربين والمطربات في زماننا هذا يتغنون بها، وقبل الحديث عنها وعن مأساتها يحسن بنا التعريف بها، فهي الأميرة أسماء بن خمارويه بن أحمد بن طولون، وقد كان والد جدها طولون التركستاني الأصل أحد المماليك الذين بعث بهم الساماني حاكم بخارى إلى الخليفة العباسي المأمون، وقد وجد فيه الخليفة فطنة، جعلته يستعين به في جيشه، ويستنير برأيه، وربما أن التوفيق قد حالفه، فقد يكون من بين المماليك الذين بعث بهم الساماني، من هو أجدر منه، لكنها إرادة الله الذي بموجبها تتيسر الأسباب.
حرض طولون الذي كان مسؤولاً عن ثغر طرطوس على تربية ابنه أحمد الذي ولد في عام مائتين وأربعة عشر تربية دينية حسنة خلقاً وسلوكاً وعلماً، وحزماً ومهارة حربية، مع عقل راجح حباه الله إياه، فكان في شبابه الذي قضاه في طرطوس يترفع عن الخنا والفساد الأخلاقي الذي كان يمارسه بعض شباب الطبقة النافذة من الأتراك في ذلك الوقت، واجتهد في التطلع إلى السمو والنبل والغايات العليا، وبعد وفاة والده أتيحت له الفرصة، حيث قلّده الخليفة المتوكل ومن بعده المستعين المهام التي كان يتولاها والده، فأحسن التدبير، وهو في عمر العشرين عاماً، وتزوجت والدته من الأمير التركي بايكباك التركي الذي تم تعيينه من قبل الخليفة المعز والياً على مصر، وقد اعتاد هؤلاء النافذون من الأتراك بعد توليتهم على مناطق بعيدة عن مركز الخلافة، أن يعينون نواباً عنهم حتى يبقوا قريبين من مركز اتخاذ القرار ببغداد، ولهذا فقد قرر زوج أمه الأمير بايكباك تعيين أحمد بن طولون نائباً عنه في ولاية مصر، فنجح في حفظ أمنها، وحرص على تكوين جيش من الترك والروم والزنج، وهذا الخليط جعله يسيطر على الجيش حتى لا ينفرد جنس معين به، ويزيحه عن سلطانه.
ومرة أخرى يساعده الحظ، فبعد قتل بايكباك زوج أمه، عيّن الخليفة العباسي المملوك التركي يارجوخ والياً على مصر، وهو صهر طولون والد أحمد، فأبقاه نائباً له على مصر، بل وزاد في سلطته، حيث منحه جميع السلطات عدا الخراج الذي بقي في يد أحمد بن المدبر، الذي لم تكن سيرته محمودة، وهذا أيضاً من حسن طالع أحمد بن طولون، الذي كتب إلى الخليفة المهتدي بطلب إزاحة أحمد بن المدبر عن الخراج فوافق وأزاحه، ومنحه جميع السلطات وأضاف إليه الثغور الشامية التي كانت تعاني من اضطرابات متعددة، فكانت فرصة أخرى متاحة له، وبعد وفاة يارجوخ أصبح أحمد بن طولون حاكم وأمير مصر والثغور الشامية والإسكندرية وبرقة، ودعوا له على المنابر.
في هذا الوقت كان هناك صراع في بيت الخلافة فقد كان الخليفة المعتمد يعاني من تسلّط أخيه الموفق، الذي سيطر على جميع السلطات، حتى إن الخليفة طلب مبلغاً من المال فلم يوافق عليه أخوه الموفق، فقال:
أليس من العجائب أن مثلي
يرى ما قل ممتنعاً عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً
وما من ذاك شيء في يديه
إليه تجمع الأموال طراً
ويمنع بعض ما يجبى إليه
لم يكن أحمد بن طولون راضياً عن ما يجري في بيت الخلافة، فكتب يطلب من الخليفة القدوم إليه، ونقل مركز الخلافة إلى مصر، وتأخر المعتمد عن الجواب لمدة عام، ثم وافق، وكان أحمد بن طولون في الثغر الشامي، فقرر الخليفة السير إليه، لكن أخاه الموفق ثناه عن ذلك، الحديث عن أحمد بن طولون يطول، وسنتوقف عن الحديث عنه.
بعد موته تولى أمر مصر والشام بعده ابنه خمارويه والد قطر الندى، وقد أوصاه والده قبل موته بالحفاظ على قوة الجيش، والتقرّب من الرعية، وصرف المال في ما يفيد، وقد نفذ الوصية الأولى والثانية وأهمل الثالثة، فقد أسرف في إنفاق المال على الملذات والبذخ، وبناء القصور، وجمع الجواري الحسان وربما غير الحسان، كما أسرف في شراء الغلمان، وقد كان كثير الأرق ليلاً فجعل تحت سريره زئبقاً حتى يهتز السرير وربط سريره بخيوط من حرير إلى أعمدة من ذهب، وكان ينفق على من حوله بلا حدود، وقد ترك له والده أموالاً طائلة بحسن تدبيره، في هذه الظروف كانت ابنته قطر الندى تعيش في رغد من العيش، وكان صراعه مع الخليفة المعتضد على أشده، وقامت بينهما حروب، وقد رأى الخليفة أن من صالح الطرفين الصلح، على أن يقر الخليفة لخمارويه ما تحت يده، فرضي الطرفان، ورغبة من خمارويه في توثيق العلاقة بينها، فقد اقترح على الخليفة أن يزوج ابنته قطر الندى إلى أحمد ابن الخليفة، وأخذ في تجهيز العروسة الجميلة البالغة عشرين عاماً، ويقول الرواة إنه أمر ببناء قصر في كل مرحلة من مراحل سفرها من الفسطاط إلى بغداد، وجهز كل قصر بما يلزم من خدم، وحشم، وأثاث، وأكل، وشرب، وحمل معها أرطالاً من الذهب بالغ في وصفها المؤرِّخون، وبعد وصولها إلى بغداد طلب الخليفة الزواج منها بدل ابنه، فتم له ما أراد، وبعد مدة وجيزة توفي والدها، ولم تستطع التأقلم مع وضعها الجديد، وقدمت وفاة والدها فماتت كمداً، هذه القصة قد تكون حقيقية، لكن كونها أفلست بمصر فهذا ضرب من الخيال، والمبالغة في تجهيزها ربما أيضاً من مبالغات المؤرِّخين، الذين يميلون إلى التشويق من خلال المبالغة.