د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
ذكر هذا سيبويه قال «وأما قول العرب في الجواب (إنَّهْ)، فهو بمنزلة (أجل). وإذا وصلت قلت: إنَّ يا فتى، وهي التي بمنزلة (أجل). قال الشاعر:
بَكَرَ العَواذِلُ في الصَّبو...حِ يَلُمْنَني وَأَلومُهُنَّه
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلا ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّه»(1)
ولما كانت محتملة أن تكون على أصلها والهاء ضمير توقف في ذلك أبو عبيد قال «أَي: إنه قد كَانَ كَمَا تقلن. والاختصار فِي كَلَام الْعَرَب كثير لَا يُحْصى وَهُوَ عندنَا أعرب الْكَلَام وأفصحه»(2).
ولكن النحويين استشهدوا بشواهد أخرى منها ما جاء عند الزجاج (311هـ) وهو عدّه (إنّ) بتشديد النون في قراءة لقوله تعالى ? إنْ هذانِ لَساحرانِ? بمعنى (نعم)، ووافقه على ذلك المبرد وغيره(3)، وأما ابن شقير (317هـ)، فأورد «قول الشاعر:
قَالَت بَنَات الْعم يَا سلمى وَإِن
كَانَ فَقِيرا معدِمًا قَالَت وَإِن
قَالَت وَإِن، قَالَت وَإِن، قَالَت وَإِن
أَي نَعَمْ»(4). ولعل هذا وهم فـ(إنْ) هنا شرطية، وذكر الأبيات النحويون؛ ولكن ليس شاهدًا لهذا. ومنهم الزجاجي قال «وَتَكون بِمَعْنى (أجل) فَلَا تعْمل شَيْئًا كَقَوْل الْقَائِل لِابْنِ الزبير: لعن الله نَاقَةً حَملتنِي إِلَيْك، فَقَالَ: إنَّ وراكبَها. مَعْنَاهُ (أجل)»(5).
أما ابن مالك فقد اهتم بحشد الشواهد لها، وتأكيد معنى (نعم) للحرف (إنّ)، قال «أنكر بعض العلماء كون (إنّ) بمعنى (نعم)، وزعم أنّ (إنّ) في قوله:
بكَرَ العواذِلُ في الصَّبُو ... ح يَلُمْنَنِي وألومُهُنَّه
ويَقُلن شيب قد علا ... ك وقد كبرت فقلت إنّه
مؤكِّدةٌ ناصبةٌ للاسم رافعةٌ للخبر، وجعل الهاء اسمها، والخبر محذوفًا، كأنه قال: إن الذي ذكرتنَّ واقع كما وصفتنَّ، فحذف الخبر للعلم به، واقتصر على الاسم. والذي زعم هذا القائل ممكن في البيت المذكور، فلو لم يوجد شاهد غيره لرجح قوله، ولكن الشواهد على كون (إنَّ) بمعنى (نعَم) مؤيّدها ظاهر، ودافعها مكابر، فلزم الانقياد إليها، والاعتماد عليها. فمنها قول عبد الله بن الزُّبَيْر رضي الله عنه لابن الزَّبير الأسدي لما قال له: لعَنَ الله ناقة حملتني إليك: إنَّ وراكبَها. أراد: نعم، ولعن راكبَها. ومنها قول حسان بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه:
يقولون أعمَى قلتُ: إنّ وربما ... أكون وإني من فتى لبصير
ومنها ما أنشده أحمد بن يحيى من قول الشاعر:
ليت شِعْري هل للمحب شفاءٌ ... من جَوَى حبِّهنَّ؟ إنَّ، اللقاءُ
ومنها قول بعض الطائيين:
قالوا أخِفْتَ فقلت إنَّ وخيفتي ... ما إنْ تزالُ مَنُوطة برجاء
ونبهت في هذا الباب على ورود (إنَّ) بمعنى (نعم) ليعلم بها، فتعامل بما تعامل (نعم) من عدم الاختصاص، وعدم الإعمال، وجواز الوقف عليها»(6).
ونقض أبو حيان(745هـ) الاستشهاد بشواهد ابن مالك وتأولها، قال «اختُلف في (إنَّ) هل تأتي بمعنى (نَعَمْ) حرفَ جواب، فلا يكون لها إذ ذاك عمل، أو لا تكون بمعنى (نَعَمْ) البتة؟ فذهب بعضهم إلى إثبات ذلك، وهو قول س والأخفش واختيار المصنف. وذهب بعضهم إلى إنكار ذلك، وهو قول أبي عبيدة [أبي عبيد] واختيار ابن عصفور. وزعم المصنف أنَّ الشواهد قاطعة بذلك من لسان العرب»(7)، وعَدَّد شواهد ابن مالك وأضاف «وأنشد غير المصنف:
قالوا: غَدَرتَ، فقلتُ: إنَّ، ورُبَّما نالَ الـمُنَى وشَفى الغَليلَ الغادرُ
وقوله:
بَكَرَ العَواذلُ في الصَّبُو ... حِ يَلُمْنَنِي وأَلُومُهُنَّهْ
ويَقُلْنَ: شَيبٌ قد علا ... كَ، وقد كَبِرتَ، فقلتُ: إنَّهْ
وقال الأخفش في قوله تعالى( إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ ): إنَّ بِمعنى نَعَمْ»(8).
وأجاب عن شواهد ابن مالك وشواهد غيره فقال «وما ذكروه لا ينهض أن يكون دليلًا على مرادفة (إنَّ) لـ(نَعَمْ) إذ يحتمل أن تكون هي العاملة. فأمَّا قوله (فقُلتُ إنَّه) فهو من حذف خبر (إنَّ)، وقد تقدم أنه يَجوز لفهم المعنى، التقدير: إنَّه كما قُلْتنَّ. وأمّا قوله (إنَّ اللِّقاءُ) فهو من حذف الاسم لفهم المعنى، وقد تقدم أنه يَجوز، كما قال: (ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظيمُ المَشافرِ)، والتقدير: إنَّه اللقاء، أي: إنَّ الشِّفاءَ اللقاءُ. وأما قوله: (يَقولونَ: أَعْمَى، قُلتُ: إنَّ)، و(قالوا: أَخِفْتَ فقُلتُ: إنَّ)، وقولُ ابن الزُّبَير (إنَّ وصاحِبَها)، و(قالوا: غَدَرْتَ، فقُلتُ: إنَّ) فهو مِمّا حُذف فيه الاسم والخبر لفهم المعنى، ولا يَجوز حذفهما معًا إلا في (إنَّ)، والتقدير: قلتُ إنَّ عَمايَ واقعٌ، وإنَّ خوفي واقعٌ، وإنَّها مَلعونةٌ وصاحبَها، وإنَّ غَدْري نافعٌ. وهذا المذهب أولَى؛ لأنه قد تقرر فيها أنَّها تنصب الاسم وترفع الخبر، ولم يستقر فيها أن تكون بمعنى (نَعَمْ)»(9).
وقال أيضًا «فأمّا قولُ الشاعر:
إذا قالَ صَحْبِي: إنَّك اليومَ رائحٌ ... ولم تَقْضِ منها حاجةً قلتُ: إنَّ لا
فقيل: إنَّ التقدير: إنه لا تَتِمُّ لي حاجة. وقيل: (إنَّ) بِمعنى (نَعَمْ). وكذلك ما أنشد الكسائي:
إنَّ لا خَيرَ فيه أَبْعَدَهُ الله ... لَيُزْري بِنَفسِهِ ويَرِي
قال الكسائي: (إنَّ) فيه بمعنى (نَعَمْ). وأُوَّلَ على حذف الاسم، ويدل على ذلك وجود اللام في (لَيُزْري)»(10).
والذي أميل إليه مذهب أبي حيّان في بقاء (إنَّ) على أصل معناها، ولعل بعض النحويين عدّها بمعنى (نعم) لأنها مؤكدة للمعنى، والتأكيد كالتصديق الذي تهبه (نعم) في الجواب، ولم نجدهم استعملوها في لغتهم بهذا المعنى، فلا أظن أنّ أحدًا سيجيب من يسأله قائلًا: هل جاء زيد؟ فيقول: إنَّه.
(1) الكتاب لسيبويه، 3/ 151، وانظر: 4/ 162.
(2) غريب الحديث لأبو عبيد، ط الهندية، 2/ 272.
(3) معاني القرآن وإعرابه للزجاج، 3/ 363.
(4) المحلى وجوه النصب لابن شقير، ص 108.
(5) حروف المعاني والصفات للزجاجي، ص: 56.
(6) شرح التسهيل لابن مالك، 2/ 32-33.
(7) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان، 5/ 128-129.
(8) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان، 5/ 129- 130.
(9) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان، 5/ 130- 131.
(10) التذييل والتكميل في شرح كتاب التسهيل لأبي حيان، 5/ 131- 132.