أ.د.أبو المعاطي الرمادي
مصطلح الأدب السياحي مصطلح جديد، عرفته الساحة الأدبية والنقدية في العقد الثامن من القرن الماضي وبالتحديد بعد ظهور كتاب (ريتشارد تبلر) «الأدب كمؤثر في تشكيل الوجهات السياحية» عام 1986م؛ فبعد هذا الكتاب بدأ الدارسون يهتمون بالروابط المختلفة بين الأدب والسياحة، وراحوا يبحثون عن هذه الروابط في الأعمال الروائية والحكائية التي يغلب عليها الترويج للمكان ترويجًا سياحيًا، بغية جذب أنظار الآخرين إليه.
لم يرد ذكر مصطلح الأدب السياحي في معاجم مصطلحات الأدب والنقد العربية، التي أُعدت في نهايات الألفية الثانية، وبداية الألفية الحالية. ولا غرابة في ذلك؛ فأصحاب المعاجم يحرصون على عرض المصطلحات القارة، ويتجنبون الحديث عن المصطلحات الناشئة، أو التي لم تستطع إثبات وجودها على الساحتين الأدبية والنقدية.
لكنه وُجد في بعض الكتابات المعنية بالرحلة والسفر، والمعنية بالمكان بشكل عام، فقد وصف بعض الباحثين هذه الكتابات تارة بالسياحة الأدبية، وتارة أخرى بالأدب السياحي. ولعل الإشارة الأولى لهذا الأدب - كما يقول يوسف وغليسي - كانت في كتاب «جمرة النص الشعري» لـ (عز الدين المناصرة)، الصادر عن دار الكرمل الأردنية عام 1995م، في أثناء حديثه عن طرائق التعامل مع المكان في النص الشعري الحديث، حيث جعل من ضمن هذه الطرائق الطريقة السياحية التي تنظر للمكان « كما لو كان فلكلورًا مقتطعًا في قاعة عرض في فندق من الدرجة الأولى. فهي تتعامل مع المظاهر الخارجية السريعة الإدهاش، مع شيء من الانبهار بفولكلورية الأمكنة وقدمها وعتاقتها».
هذه الإشارة الخاطفة والمهمة جعلت القصيدة في جانب من جوانبها دليلًا سياحيًا يروج للأماكن بالتركيز على منمنماتها الجاذبة نظر الآخر، ومنحت الشعر وظيفة غير تقليدية، أضيفت إلى وظائفه الكثيرة غير الجمالية.
تلت هذه الإشارة محاولة رائدة لـ (جمال بدران) صاحب كتاب «الأدب السياحي»، الصادر عن دار المعارف بالقاهرة عام 1998م. وهو كتاب عرّف صاحبه الأدب السياحي بأنه الأدب الذي يقدم لنا «مشاهد لأماكن نائية وشعوباً متأخرة أو راقية، ونماذج من الحياة غريبة عنا أو شبيهة لنا، وأنواعاً من الكائنات عاشت أو لا زالت تعيش في جنبات الأرض أو محميات بأعماق البحار.. وهو شيء مخالف لما عهدناه في أدب الرحلات». وهو تعريف رغم عدم دقته، وتعدد أوجه الشبه بينه وبين التقارير والأدلة السياحية، زاد عليه (أحمد عسيري) في مقالته المنشورة بجريدة الوطن عام 2016م زيادة أراها مهمة، وهي: «يقع في نطاق حواس الإنسان من مرئيات وسمعيات ومشهيات تذوقية»؛ فهي تؤكد على ضرورة أن تكون الأماكن حقيقية تدركها حواس الإنسان؛ ليتحقق الهدف الترويجي لهذه الكتابات.
لكن الاهتمام بكتاب (بدران) لم يكن على قدر ما ورد فيه من أفكار جديدة، فلم يتشكل بعده تيار أدبي سياحي، ولم ينتشر مصطلح الأدب السياحي بين الأدباء والنقاد، ولم يسع الباحثون لتناول أفكار صاحبه بالدرس والتحليل والنقد، فظل الكتاب حبيس أرفف المكتبات، شأنه شأن العديد من الكتب في مكتباتنا العربية.
تلا محاولة (جمال بدران) محاولة إبداعية، وصفها صاحبها بأنها سياحة أدبية، هي كتاب» في مدينة الضباب ومدن أخرى: سياحة أدبية»، للأديب والناقد الجزائري الدكتور (عبد الله ركيبي)، الصادر عن اتحاد الكتاب الجزائريين، 2003م. فيه يؤكد ركيبي أن منجزه الإبداعي ليس رحلة بالمفهوم القديم والحديث لأدب الرحلات، وأنه ليس رحّالة.» لابد هنا من التنويه بأنني لست رحالة سافرت بغرض التجول وتسجيل العادات والتقاليد، أو وصف الطبيعة والتلذذ بالهواء الطلق وبرمال الصحراء الذهبية! لكنني كتبت عن هذه المدن بعيون مفتوحة ومشاعر ودية ونظرة موضوعية وأحيانًا نقدية، ومن ثمة ركزت على الجوهر لا السطح، كما عنيت بمواقف معينة دون أن أوغل في التفاصيل التي يهتم بها الرحالة في غالب الأحيان، ومنها المعلومات الجغرافية والتاريخية». هذه المحاولة الإبداعية كانت بداية عودة الحياة لمصطلح (جمال بدران)، فدرسها (يوسف وغليسي) دراسة مستفيضة، من وجهة نظر سياحية، ضمها إلى كتابه « في ظلال النصوص: تأملات نقدية في كتابات جزائرية»، الصادر عن دار جسور للنشر والتوزيع، عام 2009م، طالب في بدايتها بتغيير اللاحقة (سياحة أدبية) إلى (أدب سياحي)؛ فهي _ كما يرى _ الأقرب إلى مضمون الكتاب والغرض منه، وهو محق في ذلك.
وهي دراسة تلتها مقالات، وأبحاث، ودراسات جامعية تهتم بالأدب السياحي والسياحة الأدبية، مثل: (الأدب السياحي لـ أحمد عسيري، 2016م/ فضاء الصحراء والسرد السياحي في الرواية الجزائرية: رواية تيميمون لـرشيد بوجدرة نموذجًا لـ بوداود وذناني، 2017م/ تجليات الخطاب السياحي في الرواية العمانية، 2020م، والوظيفة الحجاجية للغة العربية في الأدب السياحي: إمتاع، وإقناع، ومثاقفة، لـ نوال بومعزة 2023م/ مظاهر السياحة الأدبية في رواية الملحد بقي بن يقظان لـ شيماء مباركية، ونوال بومعزة، 2023م/ الدعاية السياحية في الخطاب الروائي، عندما يتحول النص لدليل سياحي لـ أحمد بركة، 2023م/ ذاكرة المكان الروائي مرشد سياحي: منذر قباني نموذجًا لـ مجيد حاج محمد، 2022م/ الخطاب السياحي في الرواية الجزائرية: رواية ذاكرة الجسد، ونسيان. com لـأحلام مستغانمي أنموذجًا (رسالة ماجستير) لـ سارة دبلة 2015م/ السياحي في الرواية الجزائرية المعاصرة: رواية نورس باشا لـهاجر قويدري أنموذجًا (رسالة ماجستير) لـ هناء زلاسي وأم الهناء العمودي،2022م / الأدب السياحي في رواية الملحد لـعبد الرشيد هميسي (رسالة ماجستير) لـ إيمان سليماني، ومريم خوازم، ووئام نصيرة، 2023م)
والمتأمل في الرسائل العلمية والبحوث والمقالات السابقة يلمس ثلاثة أمور: الأول حيرة أصحابها في تحديد مفهوم دقيق للأدب السياحي، والتزامهم بتعريف (جمال بدران) وزيادة (أحمد عسيري) عليه، وهي حيرة لا تقلل من جهودهم، فيكفيهم قصب السبق إلى هذا الميدان، والسير في طريق وعر بلا دليل، والثاني عدم اطلاع الباحثين على كتاب (ريتشارد تبلر)، ولا على الدراسات الغربية المهمة في هذا الميدان، مثل دراستي (جوزيف بلونر)» الأدب السياحي والقواعد الإيديولوجية للمناظر الطبيعية في وادي الدانوب النمساوي. من 1870 ـ 1945) المنشورة في 2012م، ودراسة (ريتا باليرو) « الأدب السياحي وعمارة السفر عند أولجا توكارتشوك وباتي اسميث» المنشورة في 2022م، والثالث عدم وجود النص السياحي الخالص، وهامشية البعد السياحي في بعض الأعمال الروائية المدروسة؛ فلم تكتب لتكون أعمالًا أدبية سياحية، وقد انعكس ذلك على تناولهم العلمي الدقيق، وعلى نتائج دراساتهم.
إن مصطلح الأدب السياحي - عالميًا وعربيًا - مازال في طوره الأول؛ لذا فهو محفوف بعدد من الإشكالات المعيقة عملية البحث فيه:
_ أولها التعريف الدقيق للأدب السياحي، فهو بلا تعريف جامع مانع. فقد عرفه (روبنسون) بأنه «النصوص الأدبية المنخرطة في إنتاج الفضاء السياحي». وهو تعريف يجعل الأجناس والأنواع الأدبية كلها صالحة لحمل المضمون السياحي، أو على الأقل الأبعاد السياحية، وعرفه (هارالد هندريكس) بأنه «النصوص الأدبية التي يمكن أن تعزز السياحة الأدبية، مما يحفز القراء على زيارة الأماكن المرتبطة بحضور المؤلفين». وهو تعريف يقلص اهتمامات النص الأدبي السياحي، ويحصرها في دائرة الأماكن المرتبطة بالأدباء أو بالأعمال الأدبية المهمة.
وأراه نص أدبي نثري حكائي، فعل السفر الفعلي ليس ضرورة من ضروراته، البطولة فيه للمكان الواقعي غير التقليدي، يركز كاتبه على منمنمات المكان المدهشة والجاذبة انتباه الآخر، سواء أكانت بشرية، أم حيوانية، أم مادية، أم ثقافية، أم اجتماعية، ويتجنب الخوض في أبعاده الجغرافية والتاريخية والعجائبية، يتضح فيه ـ دون مباشرة ـ الجانب الإشهاري والبعد الترويجي للأماكن.
والربط ـ هنا ـ بين النص الأدبي السياحي والأدب الحكائي مقصود؛ فالطبيعة البنائية للنصوص الحكائية، لا سيما النصوص الروائية، والنصوص ذات الطابع الرحلي، تؤهلها لأن تكون وعاءً أدبيًا لنص هدفه التركيز على محتويات المكان، ومساحتها اللغوية تسمح للكاتب بتنويع وسائل إقناع الآخر، وإدهاشه بالجماليات الجاذبة.
وهو بذلك يختلف عن أدب الرحلات المرتبط برحلة فعلية أو خيالية، وفعل السفر فيها لازم الوجود بالفعل أو بالقوة، وعن الأدب الجغرافي المعني بتناول جغرافية المكان بأسلوب أدبي، فالأول فرع من فروع الأدب السياحي، كما يقول جمال بدران، والثاني لا يربطه بالأدب غير اللغة ذات الأبعاد الجمالية.
_ وثانيها النص الأدبي السياحي، والحديث عنه يطرح سؤالًا مهمًا، هل توجد أعمال أدبية سياحية خالصة؟ أو بمعنى آخر هل يوجد نص أدبي مؤشره التجنيسي رواية سياحية، مثل رواية بوليسية، ورواية خيال علمي؟ والإجابة بلا. وهي إجابة تشكك في قيمة المقالات والأبحاث والدراسات العلمية التي تناولت هذا الأدب بالدرس، لكن هذا الشك يزول إذا عرفنا أن الأعمال الأدبية المهتمة بهذا المجال نوعان: الأول أعمال يكون الترويج السياحي بُعدًا مهمًا من أبعادها، بجوار أبعاد أخرى، وهي نصوص روائية كثيرة، أشار (أحمد عسيري) إلى بعضها في مقاله عن الأدب السياحي، مثل: (الخبز والصمت لمحمد علوان، والحزام لـ أحمد أبو دهمان، وأنثى تشطر القبيلة لـ إبراهيم شحبي، جبل حالية لـ إبراهيم مضواح، الباب الطارف لـعبير العلي، حالية اللبن لـ كفى عسيري)، وبمقياس عسيري يمكن إدراج مئات الأعمال تحت مظلة الأدب السياحي، مثل خان الخليلي، وزقاق المدق، والثلاثية لـنجيب محفوظ، وموشكا للعماني محمد الشحري، والتبر لـ إبراهيم الكوني، وسيرة حُمّى لـ (خالد اليوسف)، التي شغل المكان بمكوناته فيها مساحة تفوق مساحة الحديث عن جائحة كرونا الكامن حضورها في العنوان، وبدت نظرة اليوسف إليه نظرة ترويجية صريحة، لا يشك القارئ في أنها مقصودة، والثاني أعمال يكون الترويج السياحي فكرتها الأساس، وهي أعمال إبداعية محدودة الانتشار، وبعضها في طور النشأة، مثل: « في مدينة الضباب ومدن أخرى: سياحة أدبية» للدكتور (عبد الله ركيبي)، وكتابات الدكتورة (أمل التميمي) المنشورة بالجزيرة الثقافية تحت عنوان أدب الرحلة الترفيهي، وهي الكتابات التي أراها تمثل الأدب السياحي خير تمثيل.
_ وثالثها كيف ستدرس هذه النصوص؟ وأي المناهج النقدية ستصلح معطياته مولجًا إلى عوالمها؟ وأرى أنها في حاجة إلى منهج تكاملي يتوافق مع مكوناتها، فهي ليست مجرد نصوص حكائية توظف فيها اللغة لنقل مغزى ما إلى المتلقي، بل نصوص تحضر فيها كاميرا السينمائي، وريشة الفنان التشكيلي، وخطوط المهندس المعماري، وبصمة الأثري، ولمسات الجغرافي، وإشارات المؤرخ، وتتعدد أبعادها وتتنوع في النص الواحد، وهي أمور لا يمكن تناولها بمعطيات منهج نقدي واحد.
** **
- جامعة الملك سعود