أ.د. محمد خير محمود البقاعي
عندما وصلت إلى الرياض المحروسة -بإذن الله- عام 1417هـ/1996م، لم يكن يجول بخاطري قول قيس بن الملوح:
وَقَد يَجمَعِ اللَهُ الشَتيتَينِ بَعدما
يَظُنّانِ كُلَّ الظَنِّ أَلّا تَلاقِيا
فقد وجدت في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود كوكبة من الأساتذة كانوا أساتذتي في جامعة دمشق، أو طارت شهرتهم في الآفاق أو ممن سبقوني في التحصيل والوصول. وقد سبقت الإشارة في هذه الشذرات إلى الاستقبال الودود المفعم بالمودة والكرم الذي خصني به زميل نبيل أبت مروءته الخالدية الأصيلة إلا أن يستضيفني في منزلة العامر؛ وهذا من خصال الكرماء التي ينبغي التنويه بها؛ إنه الأخ الكريم وأستاذ النحو والصرف المكين، الذي يأبى تواضعه وحبه للعلم أن تصدر عنه بعض مظاهر التفاخر والتعالم، الأستاذ الدكتور أحمد مطر العطية (أبو وائل) -حفظه الله -. يبدو النحو وما تعلق به سلساً محبباً عندما تستمع أو تقرأ لأبي وائل الذي يروي غليلك شرحاً وتفصيلا.
أبو وائل ابن البادية السورية في الطريق إلى عاصمة الملكة الزباء، أو زنوبيا، بنت عمرو بن السميدع (تدمر) التي وقفت في وجه الإمبراطورية الرومانية زمنا؛ وهي صاحبة المثل السائر؛ «لأمر ما جدع قصير أنفه»؛ وجدع الأنف عند العرب من علامات الذل والمهانة. وقصة قصير هذا التي ربما تكون من نسج خيال القصاص وبعض المؤرّخين تحمل مع ذلك دلالات نفسية وخلقية يبدو أن المجتمع العربي كان يؤثرها على وجه من الوجوه. ومن الفوائد التي حصلتها مما يخص تدمر بالقياس أن أستاذي في جامعة ليون الثانية - لويس لوميير - Lyon 2 Louis Lumière (1864-948 م) البروفيسور أندريه رومان André
Roman (1928-2012 م) الذي ولد في تونس، وكان دائم الحديث عن اسم البطل ملك قرطاج الذي ينطقه الغربيون «هنيبال» لعدم وجود العين في اللاتينية، واسمه العروبي «هانيبعل» وبعل اسم إله المطر في اللغات العروبية (السامية). تذكرت هذا وأنا أدلف أول مرة إلى معبد عظيم في تدمر على مدخله لوحة كتب عليها «معبد بل» وقد ضاعت العين لأن العاملين في المكتشفات الأثرية من الأوروبيين الذين يغيب عن كثير منهم ما ذكرناه. وما زال أهل الشام من سكان البادية والمزارعين يسمون المحاصيل التي يعتمد موسمها على الأمطار بعلا والأرض التي تزرع فيها تلك المحاصيل من قمح وشعير وعدس محاصيل بعلية. وعن أستاذي أندريه رومان كتاب في سلسلة «مائة كتاب وكتاب» التي أصدرها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالتعاون مع معهد العالم العربي في باريس، صدر عام 2020م ورقم العدد 15.
وكتب مؤلف الكتاب الأستاذ الدكتور الصديق التونسي حمادي صمود اسمه «أندري» والمستفيض أن يكتب بالهاء أندريه فهو أقرب للنطق الفرنسي.
أدين لأبي وائل بكثير من توخي الحكمة في مواجهة الأمور مما اختزنته الذاكرة وداً وعرفاناً. ولئن كان أبو وائل الوجه الأول الذي أخذ بيد الوافد الجديد لقد كان لقاء أستاذي وأستاذ الأساتذة الدكتور محمود جبر الربداوي -حفظه الله - فرصة لاستعادة ذاكرة سنوات في جامعة دمشق كان إبانها أستاذاً ورئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها ووكيلاً لكلية الآداب قبل أن يشد الرحال إلى الرياض ليقضي فيها سنوات طوالا مجتهداً مكرماً وأستاذاً يفخر به طلابه ومحبوه. درست عليه الأدب العباسي في السنة الثالثة من قسم اللغة العربية وآدابها بدمشق 1979م. وتحقيق المخطوطات في دبلوم الدراسات العليا- القسم اللغوي عام 1981م. والذكريات في هذه المرحلة تتزاحم لارتباطها بقضايا علمية أثيرة لدي؛ فقد كان -حفظه الله - قد ولد في قرية (طفس) في محافظة حوران عام 1932م، غير بعيد عن قرية (جاسم) التي شهدت ولادة شاعر العصر العباسي الكبير أبي تمام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي (188 - 231 هـ / 803-845م). درس الدكتور ربداوي حياة بلديه وشعره في رسالته للدكتوراه التي نشرت في مجلدين بعنوان: «الحركة النقدية حول مذهب أبي تمام تاريخها وتطورها وأثرها في النقد العربي» (1967 م، ط1 دار الدعوة، ط2، 1969م دار الفكر للطباعة والنشر، دمشق. أما في تحقيق المخطوطات فقد كلف كل طالب في مرحلة دبلوم الدراسات العليا بالعمل على عشر أوراق من مصورة مخطوطة أخبرنا أنها نسخة إيرانية ربما تكون كتاب «أشعار القبائل» لأبي تمام. ثم اتضح على العمل أنها نسخة أخرى من «الحماسة» ومن الطرائف عن أبي تمام أنني قلت في إحدى محاضراته: إن أبا تمام توجه إلى حمص لمقابلة شاعرها الكبير عبد السلام بن رغبان (ديك الجن الحمصي، 161-236هـ). وأنشده شعره فقال ديك الجن: «تكسب بشعرك يا فتى». فضحك وقال: هذا ما جعل أبا تمام يغادر جاسم إلى العراق ولم يعد أبداً، فقلت: إن الروايات تقول إنه عاد ولما كان في ظاهر جاسم قرب عين ماء عليها امرأتان نظرت إحداهما إلى الأخرى وقالت: أليس هذا أقرع جاسم؟ وهو اللقب الذي كان ينبذ به أبو تمام في جاسم، فلم يدخلها ومات في الموصل. ومن مآثر الدكتور أبي معتز إشرافه على الدورة العالمية الخامسة للسانيات، دمشق (27 تموز - 2 آب 1980). والدورة العالمية السادسة للسانيات، دمشق (27 تموز - 20 آب 1981 م)، بينما أقيمت الدورة السادسة عام 1982م في المدرسة العليا للأساتذة في الرباط- المملكة المغربية؛ وكانت أول ندوة عالمية أشارك فيها خارج البلد بمساعدة منه. وما زلت أحتفظ بأجمل الذكريات عنها. كان نعم الأستاذ لا يبخل بتوجيهاته، ذا رأي سديد ومتزن.
أما أستاذنا النبيل الأصيل الذي أدين له بالكثير تعليماً وتوجيهاً ونصحاً إنه الشيخ الفاضل أستاذ الأجيال والمجمعي المؤزر الذي جمع بين العلم والحنكة في شؤون العلم والحياة؛ أستاذي عاصم بهجة البيطار (1346- 1426هـ/ 1927- 2005م) -رحمه الله -. درسني النحو والصرف عام 1976م في جامعة دمشق وكان درسه حلقة علم وخفة ظل وبراعة في إيصال المعلومة والتعليق عليها بما يجلوها للمتعلم ناصعة واضحة، كان يفرح لرؤيتي بين الحاضرين ويبادرني بالسؤال وقد اعتدت على تحضير دروسه مسبقاً فإذا وجد في إجابتي ميلاً عن الصواب نسبه إلى أهل حمص وآرائهم النحوية الخاصة. وقد رشحني لتدريس طالبات الشهادة الثانوية في المدرسة التي تحمل اسم والده الشيخ العلامة محمد بهجة محمد بهاء الدين البَيطار (1311- 1396 هـ/ 1894- 1976 م) في حي الميدان في دمشق عام 1978م بديلاً للمدرسة التي تتمتع بإجازة الأمومة وكانوا يستشيرونه في ذلك. ثم علمت وأنا على أهبة الاستعداد لبدء مسيرة طلب العلم في فرنسا 12/12/1983م أنه على وشك العودة إلى المملكة العربية السعودية للتدريس في جامعة الملك سعود، ومضت السنون، وعدت إلى حمص في عام 1992م بعد حصولي على شهادة الدكتوراه في العام نفسه وعلمت أنه غادر الجامعة للعمل في تحرير مجلة «الفيصل» وكنت ترجمت مقالة من كتاب للطبيب الفرنسي المسلم موريس بوكاي Maurice Bucaille (1920-1998م) -رحمه الله -، «القرآن والعلم المعاصر» وهو الكتاب الذي ترجمته بالاشتراك مع الزميل صديق الدراسة والتدريس الأستاذ الدكتور محمد بن إسماعيل بصل كاملاً بعد حين بعنوان: «القرآن والعلم المعاصر، موريس بوكاي، دار ملهم، حمص، سورية، 1995م.» كانت المقالة بعنوان: «ترجمات القرآن الكريم» المنشور في العدد 239 من مجلة (الفيصل) الصادر في جمادى الأولى 1417 هــ. وعلمت لاحقاً عندما وصلت إلى المملكة في العام نفسه أنه من أجاز المقال وكان -رحمه الله - فرحاً به. وعن موريس بوكاي الطبيب الخاص لجلالة الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود (1905-1975م) -رحمه الله -. وعن بوكاي كتاب صدر ضمن سلسلة مئة كتاب وكتاب تأليف محمد عبد الله الشرقاوي 2021 م، رقم العدد 25.
كنت أمر بمكتب الشيخ عاصم في مجلة «الفيصل» عندما كان مبناها في شارع العروبة، وكان يرأس تحريرها آنذاك الدكتور زيد بن عبد المحسن الحسين الذي تولى رئاسة تحريرها من العدد 178 الصادر في ربيع الآخر سنة 1412هـ (أكتوبر- نوفمبر 1991م) إلى العدد 264 الصادر في جمادى الآخرة سنة 1419هـ (أكتوبر 1998م). وعندما انتقلت إلى مركز الملك الفيصل في الطابق الأرضي من مبنى المكتبة وأوكل إلي الأستاذ عاصم قراءة النتاج الأدبي «قصص وقصائد وخواطر» التي يرسل إليها الكُتّّاب من الشباب نتاجهم لتقويمه ونشر الصالح منه، وكتابة تعاليقي التي أفردت لها المجلة باباً خاصاً.
لقد كان أسعد الناس عندما علم بزواجي من كريمة أحد أصدقائه في جامعة دمشق عمي سلامة كامل اليافي الزهري، (1926-2020م) -رحمه الله - الدكتورة رندة سلامة اليافي الزهري في سنة 1998م. وزارنا مع جمع من الأصدقاء عندما استقر بنا المقام في سكن جامعة الملك سعود. رحم الله أستاذنا وأجزل مثوبته في الجنان.
ومن أصدقاء أستاذنا -رحمه الله - أستاذ فاضل، وعالم بارع في علوم العربية والقرآن الكريم والحديث النبوي والتربية؛ شيخنا الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ (أبو لطفي) (1348- 1439 هـ/ 1929- 2017م) -رحمه الله - كان جاري في المكتب وفي السكن الجامعي، كان قامة من العلم والفضل أراه كل يوم في طريقه إلى دروسه يخصني بابتسامة وسؤال عن الحال، وكنت ألمس لدى طلابه مظاهر الود والإجلال التي يحيطون بها أستاذهم. أبا لطفي -رحمه الله - كنا نفزع إليه في كل ما يخص القرآن الكريم والحديث النبوي تفسيراً وتأويلاً وتقويماً للمصادر قديمها وحديثها؛ قلت له يوماً إن أستاذ القرآن الكريم في جامعة دمشق الأستاذ الدكتور عدنان محمد زرزور - حفظه الله - وكان يحدثنا عن التصوير البياني في سورة «الرعد» وسألنا عن ملاحظاتنا فقلت حينها ببساطة الطالب: من الملاحظ أن أغلب عناصر الصورة في السورة تحتوي على عناصر مائية أو يمكن ردها إليها فاحتفل بإجابتي وسألني عن اسمي وكان ذلك في تلك الأيام من أجمل المكافآت. وكانت آخر مرة رأيته فيها وسلمت عليه فهش وبش وسألني عن أحوالي وما رزقته من أبناء؛ كان ذلك في مركز الملك فهد الثقافي في ندوة تأبين معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد (1363هـ /1944م -2013/ 1435هـ) وزير التربية والتعليم الأسبق -رحمه الله-. لقد كانت ندوة حافلة تزامن انعقادها مع الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية أدارها الأديب اللامع الأستاذ حمد القاضي - حفظه الله-، وتحدث فيها الدكتور محمد لطفي الصباغ الذي روى تجارب ومواقف مع الفقيد وحرصه على اللغة العربية، كما تحدث الدكتور ناصر بن سعد الرشيد الذي زامل الفقيد في جامعة أم القرى في مكة المكرمة ثم تحدث الدكتور محمد الصائغ عن تجربته مع الفقيد في جامعة الملك سعود ووزارة التربية. ثم قدم درعاً تذكارياً لابن الفقيد أحمد بن محمد الرشيد. لقد كان حفلاً رائعاً برعاية معالي الوزير الشاعر الدكتور عبد العزيز خوجة، -حفظه الله -، وبإشراف مباشر من وكيل الوزارة للشؤون الثقافية الدكتور ناصر الحجيلان. وعقدت الندوة يوم الأربعاء (22/12/2013).
ولعله من جميل أقدار الله أن يلتقي في قسم واحد في جامعة الملك سعود أستاذان كانا زميلي دراسة، فرقت بينهما المسالك والأفكار ليلتقيا من جديد في مناخ الألفة وخدمة العلم وطلبته في مسار لا تجد الإيديولوجيات إليه سبيلا؛ إنهما الأستاذ الدكتور محمد لطفي الصباغ والأستاذ الدكتور الأديب والشاعر نذير محمد فوزي العظمة (1930- 2023) - رحمه الله.
كان الدكتور العظمة شخصية يخيل إليك وأنت تستمع إليه شاعراً أو ناثراً أنه من شخصيات الأساطير القادمة من أعماق التاريخ؛ الأساطير التي كان إدراجها في القصيدة الحداثية ملمحاً من ملامح الحداثة التي كان الدكتور العظمة أحد أوائل روادها، وكان أيضاً «من أوائل الشعراء الذين أسهموا في تطوير القصيدة العربية الحديثة، فيما يعرف بالقصيدة المدورة». كانت الملتقيات واللقاءات ساحة حوار في رحاب قسم اللغة العربية كانت فيه الأفكار تتوالد والآراء تتجدد، وكان لنا حوار دائم عن تأثر دانتي اليجيري بالتراث العربي وكان يميل إلى أنه تأثر بالإسراء والمعراج وليس برسالة الغفران للمعري؛ ويستدعي ذكر أبي العلاء المعري أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي (363 هـ - 449 هـ/ 973 -1057م)، المفكر والفيلسوف والشاعر والمجلي في علوم العربية، وصاحب المؤلفات الرصينة التي يحسن اختيار عنواناتها، ومنها: «رسالة الغفران» التي ذاع صيتها شرقاً وغرباً في مسألة تأثر الكاتب والمفكر الإيطالي. دانتي أليغييري Dante Alighier 1265 - 1321 م، بها في ملحمته السائرة «الكوميديا الإلهية» وقد ظهرت محققة بعناية الأستاذة الكبيرة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) 193-1998م، ونشرتها دار المعارف أولاً وثانياً إبان زمن قصير. وامتدت بي الذاكرة معها إلى ريحانة الشام وعلامتها الأستاذ أحمد راتب النفاخ (1345- 1412هـ/ 1927- 1992م) الذي كان أول ما نشره بحثاً عن طبعة رسالة الغفران. وقد قال صديق العلامة النفاخ رئيس مجمع اللغة العربية في دمشق الأستاذ الدكتور شاكر الفحام (1921-2008م) عن ذلك في كلمته التي أبنه فيها:
«أول ما نشر كلمة في نقد رسالة الغفران التي ظهرت في مصر عام 1950م، وقد أرسل كلمته إلى مجلة الكتاب المصرية فنشرتها بعد أن تصرفت بها تصرفاً أفسدها. فلما ظهرت الطبعة الثانية لرسالة الغفران عام 1957م علق عليها في مقال له في مجلة المجمع. ولكن رائده في كل ما صنع هو الوصول إلى وجه الصواب. يقول: «.... فأحببت أن أعرض وجهة نظري فيما توقفت -أي الدكتورة بنت الشاطئ - فيه، على العاملين في هذا المضمار ليدلي بوجهة نظره من عنّ له رأي فيه، عسى أن نصل إلى وجه الصواب في هذا كله ........ «. وقد كان الأستاذ النفاخ على ما نقله عنه صديقنا العلامة المجمعي الأستاذ الدكتور أحمد محمد الدالي1953-2021 م -رحمه الله - يجل أبا العلاء ويعلي شأنه بين علماء العربية ويذكر قصته مع الخطيب التبريزي، أبو زكريا يحيى بن علي بن محمد الشيباني التبريزي وشهرته الخطيب (421 هـ - 502 هـ / 1030 - 1109م)، صاحب الشروح المستفيضة رحل من تبريز في إيران إلى معرة النعمان ليقرأ على المعري معجم «تهذيب اللغة» للأزهري أبي منصور محمد بن أحمد بن الأزهر بن طلحة الأزهري الهروي اللغوي الشافعي، الملقب بالأزهري (282 - 370 هـ / 895 - 981 م)، وهو من المعاجم الجليلة التي تنفرد بكثير من الروايات عن العرب الفصحاء الذين قضى بينهم أبو منصور مدة يسمع ويدون، فلما وصل التبريزي إلى المعرة وجد أن نسخته التي كانت في كيس يحمله على ظهره امحت بعض صفحاتها من التعرق فعلاً نشيجه حتى سمعه المعري فسأل عما به فأخبره بالواقعة فطيب خاطره وأملى عليه الممحو من ذاكرته وكان كفيفاً. ومهما كان نصيب القصة من الصحة فإنها تدل على سعة علم المعري وطيب معشره. وقد كان الدكتور طه حسين 1306 هـ/1889م – 1939هـ/1973م يجل المعري ودعا إلى مؤتمر في ذكراه حضره وجلب معه كتباً كثيرة ضمتها مكتبة أصبحت بعد سنين من نوادر الكتب بطبعاتها الأصلية. وكان التراث في تجلياته حاضراً في شعر الدكتور العظمة ونثره، بارعاً في تحليل النصوص والمضي بعيداً في سبر أغوارها. لقيته مرة بعد مغادرته المملكة في المكتبة الوطنية السورية في ساحة الأمويين صيف عام 2010 م، كان اللقاء ثرياً استعدنا فيه ذكريات السنوات السمان التي مرت مر السحاب، ودعته وكانت في نظرته بهجة السنين التي قضاها في المملكة وأعلم علم اليقين أنها غيّرت كثيراً من قناعاته التي كانت تجربة يخوضها المرء في بعض الأحايين تمسكاً بمسيرة الحياة حتى إذانبلج نور الحق أنار له الطريق في أعماقه، كان كل ذلك مضمناً في حديثنا وبادياً في التماع النور في عينيه وهو يغادر مكان جلوسنا تعلو ثغره بسمة لو تكلمت لقالت ما في خبايا النفس، كانت الرسالة واضحة في السلوك وليس في الكلمات وأنا أنقلها اليوم بامتدادها من نفسه التي كانت تحدثني في لحظة الوداع. تلك هي مواسم الخير والنور في التبصر والانتماء التي يقضيها المرء في ظئر الحضارة العربية والإسلامية التي جابت أطراف العالم ويأبى الله إلا أن تعود إليه. نعم، كانت الرسالة واضحة وفهمتها واختزنتها ليحين اليوم زمن الشهادة الحق. رحم الله رجل التحولات التي أفضت به التجارب والإيديولوجيات إلى يقين استودعه في تلميح يغترب من التصريح وذلك بفضل من الله، ومن حصاد السنوات التي قضاها في المملكة العربية السعودية في أمن وأمان فكرياً وإنسانياً في تجربة فريدة. فرسان هذه الشذرة الخمسة كان لهم حضور إبداعي وإنساني في فن الحياة والفكر والتعبير ومن ستتزين بهم الشذرات القادمة ليسوا أقل شأنا، بل إن لهم حضورا لا يقل إشعاعاً وارتباطاً بالفوائد والطرائف استفادة وطرافة. ولنا لقاء.