عبدالله العولقي
تعودنا في تراثنا العربي أن نلمح منظومات شعرية تخصصت في لم شتات علم من العلوم أو فن من الفنون وتهدف إلى تيسير العملية التعليمية، ولأن غالب صناع هذه المنظومات من العلماء والمتخصصين في تلك الفنون فيغيب عنهم الإبداع الفني الشعري، ولذا نجد القاسم المشترك بين هذه المنظومات أنها مرتكزة في الغالب على تفعيلة بحر الرجز مستفعلن المتكررة، وأهل العروض يطلقون على هذا البحر لقب حمار الشعراء كونه من أكثر البحور استهلاكاً نظراً لسهولته في القول والنظم، من هذه البوابة نجد أن أغلب المنظومات التعليمية ترجز على وزن هذا البحر، ويطلق على بعضها الأرجوزة استناداً عليه كأرجوزة ابن عبد ربه الأندلسي في علم العروض أو أرجوزته الأخرى في علم الطب، فالأرجوزة من الأشعار السهلة التي يقع أثرها اللطيف على النفس لخفتها، وهي نوع من أنواع الشعر يكون كل مصراع منه مفردًا والأرجوزة غير القصيدة، لأن القصيدة يكون البيت فيها مكونًا من مصراعين، والشعر العربي كله إما رجز وإما قصيد، ويسمى ناظم الرجز راجزًا، وأما قائل القصيد فيسمى شاعرًا، وهذه المقدمة الموجزة حول الرجز والقصيد جاءت لأن معظم النظم التعليمي يأتي على شكل رجز ما عدا منظومات قليلة أتت على شكل قصيدة مثل موضوعنا اليوم حول المنظومة الفاخرة : حرز الأماني ووجه التهاني في القراءات السبع المثاني للإمام الشاطبي الأندلسي رحمه الله تعالى، والتي نظمها على بحر الطويل، بحر عمالقة الشعر وأرباب القصيد، وللمعلومية فهذا الشاطبي هو غير الإمام موسى بن إبراهيم الشاطبي الفقيه المعروف صاحب كتاب الموافقات.
ولد الإمام أبو القاسم بن فيره بن خلف بن أحمد الشاطبي الأندلسي الرعيني الضرير في آخر سنة 538 هـ بشاطبة الأندلس، حيث تلقى فيها علم القراءات القرآنية وحذقها على يد شيخه أبي عبدالله محمد بن أبي العاص النفري، ثم رحل إلى بلنسية فعرض بها التيسير للإمام أبي عمرو الداني، ثم رحل للحج وعند رجوعه عرج على القاهرة، وهناك استقبل استقبالاً كبيراً من رجال العلم، والتف حوله طلاب العلم من كل حدب وصوب فكان وجوده بمصر فرصة ثمينة لا تعوض لأهل القرآن، وهناك نظم قصيدته الشهيرة الموسومة بحرز الأماني ووجه التهاني.
وكما هو معروف عند أئمة القراءات أن الأوجه التي يقع بها التغاير والاختلاف بين القراءات لا تخرج عن سبعة أوجه كما يرى الشيخ عبد الفتاح عبد الغني القاضي شارح الشاطبية، وأنها المقصودة حول مفهوم القراءات وتبايناتها، وهي :
1- اختلاف الأسماء في الإفراد والتثنية والجمع.
2- اختلاف تصريف الأفعال بين الماضي والمضارع والأمر.
3- اختلاف أوجه الإعراب.
4- الاختلاف بالنقص أو الزيادة.
5- التقديم والتأخير.
6- الاختلاف بالإبدال.
7- الاختلاف بين اللهجات العربية.
ولا نريد التوسع بالشرح لأن المقالة هنا لا تتعلق بعلم القراءات وأوجه التلاوة بقدر ما نعني بها الحديث حول الإبداعية الفنية والابتكارية الشاعرية التي اتسمت بها قصيدة حرز الأماني.
بدأت ببسم الله في النظم أولا
تبارك رحماناً رحيماً وموئلاً
وثنيت صلى الله ربي على الرضا
محمد المهدى إلى الناس مرسلا
وثلثت أن الحمد لله دائماً
وما ليس مبدوءاً به أجذم العلا
هكذا بدأ الشاطبي لاميته التعليمية والتي يتضح من خلال أسلوبه السهل الممتنع قدرته الفائقة على نظم الشعر، ونفسه الشعري العميق حيث بلغت أبيات القصيدة 1173 بيت شعر :
وأبياتها ألف تزيد ثلاثة
مائة وسبعون زهراً وكملاً
ومن المعروف أن علم القراءات من العلوم الصعبة كون أوجه تلك القراءات تتشابه فيما بينها في مواضع وتتباين في مواضع أخرى، وتحتاج إلى دقة معينة، ولذا كانت الحاجة ماسة إلى منظومة تعليمية تلم شتات هذا العلم، فكان للإمام الشاطبي هذا الشرف الذي أبدع فيه أيما إبداع، وتأتي صور هذه الإبداع الابتكاري من وجهين اثنين :
1- اعتماده على جغرافية مكان القارئ، فكان الكوفي والبصري والشامي والمكي والمدني كرمزية لوجه القراءة التي يعنيها صاحب تلك القراءة.
2- أسلوب التضاد العكسي، يمعنى إذا ذكر أن هذا يقرأ بالمد فيفهم أن سواه من القراء يقرأون بالقصر بدون أن يلمح صراحة لهذا الأمر، وإنما يتركه لفطنة القارئ كما يقول.. وهكذا.
وما كان ذا ضد فإني بضده
غني فزاحم بالذكاء لتفضلا
3- رمزية الأحرف الأبجدية، وهنا تظهر عبقرية الإمام الشاطبي وقدرته الفذة على الابتكار رغم أنه ضرير العين، حيث رمز لكل قارئ ولكل راوي ولكل مجموعة من القراء بينهم تشابه في القراءة برمز أبجدي :
جعلت أبا جاد على كل قارئ
دليلاً على المنظوم أول أولا
فقسم القراء كما أسلفنا تبعاً لجغرافيتهم المكانية، فالكوفيين ثلاثة : عاصم والكسائي وحمزة :
وبالكوفة الغراء منهم ثلاثة
ذاعت فقد ضاعت شذى وقرنفلا
وهكذا، فالبصري هو أبو عمرو والشامي هو ابن عامر والمكي هو ابن كثير والمدني هو نافع، وهذا التقسيم الجغرافي جعل التفريق بين القراء أكثر سلاسة امام طالب علم القراءات.
وحتى تتضح صورة الرموز الأبجدية نضرب مثالاً لذلك: فقد رمز الشاطبي للكسائي بحرف الراء ورمز لعاصم بحرف النون، وعندما ابتدأ بالفاتحة قال : ومالك يوم الدين راويه ناصر، فيفهم من لفظ ( راويه ناصر )، الأحرف الأولى من الكلمتين الراء والنون، أي الكسائي وعاصم قد قرأ لفظ مالك بالمد، فيفهم من ذلك حسب قاعدته ( التضاد ) أيضاً أن سواهما قد قرءا بالقصر أي ملك يوم الدين، وهكذا.
هذه مقدمة موجزة يسيرة عن الابتكارية التي ابتدعها الإمام الشاطبي في منظومته حرز الأماني، ولعل القارئ الكريم قد لاحظ الشاعرية الإبداعية السلسة لدى الناظم، وهي السهل الممتنع، فهو شاعر ذو خيال إبداعي خصب كما سنرى لاحقاً، أذكر عندما كنا نقرأها في طفولتنا على يد شيخنا إبراهيم شربل، وكيف كان يترنم بأبياتها ويذكر لنا مدى إعجابه بها، وهنا لابد من الإلتفات إلى الحكمة التي امتلات بها مقدمة المنظومة، وهي حكمة دينية مستلهمة من القرآن الكريم والحديث النبوي كقوله :
وهذا زمان الصبر من بالتي
كقبض على جمر فتنجو من البلا
وهذا البيت مأخوذ من حديث النبي صلى الله عليه وسلم : يأتي على الناس زمان، الصابر على دينه كالقابض على الجمر، أخرجه الترمذي.
أما الفلسفة التي ارتكزت عليه ثقافة الشاعر في القصيدة فهي روحية دينية بامتياز، وتستند على فكر الصفاء النفسي وتهذيب الأخلاق :
ولو أن عيناً ساعدت لتوكفت
سحائبها بالدمع ديماً وهطلا
ولكنها عن قسوة القلب قحطها
فيا ضيعة الأعمار تمشي سبهللا
كما تذكر السيرة الذاتية للشاطبي أنه لا يتحدث في مجالسه العامة والخاصة إلا عن القرآن أو أحاديث العلم، وكان يغادر المجلس إذا أصر الحاضرون الحديث في أمور الدنيا، هذه السيرة حاضرة في مقدمة القصيدة، ويظهر أثر هذه التربية جلياً في المقدمة الطويلة التي بلغ عدد أبياتها حوالي 95 بيتاً :
بنفسي من استهدى إلى الله وحده
وكان له القرآن شرباً ومغسلا
فطوبي له والشوق يبعث همه
وزند الأسى يهتاج في القلب مشعلا
هو المجتبى يغدو على الناس كلهم
قريباُ غريباً مستمالاً وموئلا
كما تظهر في المقدمة أيضاً.. أثر الحكمة الإنسانية العميقة وتجربة الحياة الواعية بالإضافة إلى تقديم النصيحة للآخرين والدعاء لهم بنفس زكية وطيبة :
وقد قيل كن كالكلب يقصيه أهله
وما يأتلي على نصحه متبذلا
لعل إله العرش يا إخوتي يقي
جماعتنا كل المكاره هولا
ويجعلنا ممن يكون كتابه شفيعاً
لهم إذا ما نسوه فيمحلا
الأمر الآخر والذي يتعلق بالمقدمة هو حضور الأنا بكثافة جلية، ولكنها أنا تختلف تماماً عن أنا الذات المتكبرة وإنما هي أنوية تعكس مدى الثقة والاعتداد بالنفس، سواءً في إتقان علم القراءات أو في المقدرة والموهبة الشعرية :
أهلت فلبتها المعاني لبابها
وصغت بها ما صاغ عذباً مسلسلا
وفي يسرها التيسير رمت اختصاره
فأجنت بعون الله منه مؤملا
وسميتها حرز الأماني تيمناً
ووجه التهاني فاهنه متقبلا
فهذه الأنا تتسم بخصلة التواضع وتبعد عن الأنوية المتضخمة تجاه الغير، وأعني أن هذه الأنا تذكرنا بنفوس العظام والشخصيات الاستثنائية، ولذا نجدها مثلاً تطلب السماح والإغضاء من القارئ إذا وجد خطلاً بها :
وظن بها خيراً وسامح نسيجه
بالإغضاء والحسنى وإن كان هلهلا
وسلم لإحدى الحسنيين إصابة
والأخرى اجتهاد رام صوباً فأمحلا
وتتجه هذه الأنا سمواً إلى القمة لتطلب من الآخرين ( الحلم ) عن تلك الأخطاء، كما تطلب من العلماء الشعراء أن يقدموا وليصلحوا ذلك الزلل :
وإن كان خرق فادركه بفضلة من
الحلم وليصلحه من جاد مقولا
وفي الختام نقول عن هذه القصيدة الإعجازية والتي عرفت بالشاطبية لدى المهتمين بعلوم القرآن أنها من أوائل القصائد التي نظمت في علم القراءات إن لم تكن أولها على الإطلاق، وفضلاً عن أنها حوت القراءات السبع المتواترة، فهي تعتبر كما قال بعض الباحثين في علم القراءات : هي من عيون الشعر العربي بما اشتملت عليه من عذوبة الألفاظ ورصانة الأسلوب وجودة السبك وحسن الديباجة وجمال المطلع والمقطع وروعة المعنى وسمو التوجيه وبديع الحكم وحسن الإرشاد، ويكفي من ذلك كله ما قاله الإمام العلامة محمد الجزري، رحمه الله : أن من وقف على قصيدته علم مقدار ما آتاه الله في ذلك، خصوصاً اللامية التي عجز البلغاء من بعده عن معارضتها فإنه لا يعرف مقدارها إلا من نظم على منوالها أو قابل بينها وبين ما نظم على طريقها، ولق د رزق هذا الكتاب من الشهرة والقبول ما لا أعلمه لكتاب غيره في هذا الفن، بل أكاد أن أقول ولا في غير هذا الفن فإنني لا أحسب بلداً من بلاد الإسلام يخلو منه، بل لا أظن أن بيت طالب علم يخلو من نسخة به.
ولقد تنافس الناس فيها ورغبوا من اقتناء النسخ الصحاح منها، وبالغ الناس في التغالي فيها حتى خرج بعضهم بذلك عن حد أن تكون لغير معصوم، وفي موضع آخر، قال الإمام محمد بن محمد الجزري عنها : ولقد سارت الركبان بقصيدته حرز الأماني وعقيلة أتراب القصائد اللتين في القراءات والرسم وحفظهما خلق لا يحصون وخضع لها فحول الشعراء وكبار البلغاء، وحذاق القراء، فلقد أبدع الإمام الشاطبي -رحمه الله - وأوجز وسهل الصعب، لذا تلقاها العلماء في سائر العصور والأمصار بالقبول الحسن وعنوا بها أعظم عناية.