شوقية بنت محمد الأنصاري
في كل مناسبة وطنية وصوت الطفولة بإبداعه يُجاهر، ومن منابر المحفل والملتقيات حاضر، والإعلام في أوج حراكه كسا الطفولة عنايته ومكنه من النضج والوعي في ظل الحراك المتسارع للبيئة التواصلية العالمية، ليرسم الجيل دوره الاجتماعي والثقافي في رحلة التأثير المباشر والمستديم، لضمان جودة مهاراتهم أمام متغيرات عالم التواصل الشبكي وعجاج غبرتها من الفوضى والتنمر والرفاهية غير المتحضرة، لأجد في فعالية (يوم التأسيس) ما يبرهن هذه الحقيقة الجمالية التي أدركها الطفل المبدع بوعي وفطنة، وينجح في التصدي لمن حاول عرقلة رحلته نحو التغيير الإيجابي الحضاري، فتشكّلت من مهاراته اللغوية والأدبية. أخرى للإلهام مؤشراتها نماء شخصيته القيادية وجرأته لإحداث التغيير الاجتماعي الذي يلامس فكره الناقد القارئ للحراك الثقافي والإنساني من الجهات الحكومية ومؤسساتها. لقد كان لمشهد قرية التأسيس الذي شمل مناطق السعودية كافة، والتي تحمل في جوهر رسالتها التأثيرية عبر قنوات الاتصال الاجتماعي رسم إيجابيات المتغيرات الثقافية المتحضرة لمنظومة المجتمع، فكان مشهد مشاركة عدد من الأطفال بهذه الفعالية الوطنية هو ما استوقفني لقراءة خطابهم الأدبي عبر منصة (X) وما اكتنزته من دلالات تثقيف وعمق معرفة وجمال أداء في مسرحية تاريخية فنية، رمزيتها عبر الحسابات التواصلية في عروض الأزياء والألعاب الشعبية والأكلات الشعبية والفنون الأدائية وغيرها من دلالات ترفيهية تثقيفية حضارية.
إن تعايش المثقف والإعلامي مع مشهد الطفولة كان اللافت في كثير من تغطيات فعالية قرية التأسيس، لتأخذنا رسالتنا الإنسانية نحو تجويد محتوى ثقافة الجيل وصقل مواهبه، ليتمكن من رسم خطابه العفوي الحاضر في كل محفل من مرتكزات قيمه وثقافته، فكان المؤشر الأول للمشهد يحمل لغة الترفيه عند الأغلبية، ففتح الحوار المباشر مع الجمهور المحك لاستنطاق وعيهم لقيمة المناسبة الوطنية، وتكررت على المسامع مفردة الفُرجة والمتعة، وعندما تصدر من الأسرة والمجتمع هذه الرسالة تشكّل للطفل مشتتات بفكره، خاصة عند ربطها بخبرته المعرفية، فكان النتاج محدوداً، ولا محرك للتفاعل بترديد بيت قصيدة أو معلومة تاريخية، وتنحصر المشاركة في ترديد النشيد الوطني واللغة التداولية انحصرت بمفردة (يوم التأسيس) والزي التراثي.
على الجانب الآخر تشكّل المؤشر التثقيفي بظهور نخبة محدودة من الفصحاء الصغار رسموا بجمال مشاركاتهم منعطفا لتميز وإبداع الجيل، فكانت العينة محدودة أمثال (لانا الغامدي -ليندا خالد- كادي الخثعمي- وسام الحربي- عبدالعزيز الفيفي- خالد اليحيى -رائد العسيري-دانة الداوود - يارا الحربي- جوانا الحبيشي- تميم الحارثي)، وقد نثرت مشاركتهم الفردية والجماعية عبر الصوت والصورة النور في حساباتهم التواصلية بتأثير فني ملهم، واستدعت دورنا في دعمها ليقوى إيمان الجيل بجمال إرثنا وأصالة ماضينا الثقافي، وفي قراءة هذا المشهد نجد همّة الطفل تنطلق لتندمج بمنظومتها الاجتماعية، ومشكلة ملامح النضج الثقافي لديه ولدى أقرانه الذين تفننوا في المشاركة بعروضهم بين منظر مرئي في المتاحف والقصور الأثرية وواحات النخيل ولباس الإرث، إلى تبادل التحفيز بالحوار والرد الأدبي المؤثر. إن حالة النضج الثقافي التي رسمها هؤلاء النخبويين الصغار ما قامت إلا على احترام الآخر برونق الحوار كمسلك رئيسي في الدفاع عن القيم الثقافية للمجتمع، وبالتالي أراهن بأن اللغة التي جذبت الطفل ليرسم مشهده المؤثر في يوم التأسيس هي ذاتها التي ستدفعه ليبتكر ويبدع في الانتقال لمحطات نماء ثقافي إنساني تترجمها لغته الجديدة المزخرفة بالأداء والتقنية والفنية.
بالعودة لقراءة المؤشر الأول الذي رسم منعطفا للفاقد الموجود، وبالتالي الحيرة في قراءة واقع الوعي الثقافي للطفل وأسرته، فكل ما تكتنزه خبرتهم التاريخية من ثوابت متأصلة بماضيه، ارتكزت فقط على ثقافة الاستعراض بالزي التراثي، في حين تأخرت اللغة الإبداعية من شعر ونثر في الحضور على لسان الأطفال، الأمر الذي جعل درجة الاستجابة لمعطيات خطابهم ترسم الدور الذي يتحتم على الأسرة (المتعلمة المثقفة المتحضرة الواعية) أن تتحول بمتغيراتها من الترف والصمت نحو رسم مؤشرات النضج الثقافي لها، بتداخل دورها الطبيعي والاجتماعي وردة فعل إيجابية تجاه هذه المواقف والمناسبات المتنوعة، فترسم بذكائها الاجتماعي المؤشر الأقوى في نمو طفلها مع ثقافة ماضيه وعصره ومستقبله.
قراءة هذا المشهد الثقافي للطفل ارتكز على النظرية الاجتماعية والثقافية للعالم الروسي (ليف يجوتسكي) الذي اعتقد بأن كلًّا من الوالدين ومقدمي الرعاية والأقران، والثقافة بمفهومها الأوسع، مسؤولون عن تطوير أنظمة الوظائف العليا للفرد، وعن كيفية تأثير الاعتقادات، والسلوكيات الثقافية على طريقة تعلمه، وتأثره بالبالغين والأقران من حوله، يصفها بقوله: «يُولد الأطفال بقيودٍ بيولوجيةٍ أساسية في عقولهم، ومع ذلك تُقدم كل ثقافة أدوات التكيّف العقلي، هذه الأدوات تسمح للأطفال باستخدام قدراتهم الذهنية الأساسية بطريقةٍ متكيفة مع ثقافتهم التي يعيشون فيها، على سبيل المثال. في حين قد تركز ثقافة ما على استخدام استراتيجيات الذاكرة -كتدوين الملاحظات- تستخدم ثقافاتٌ أخرى أدواتٍ مثل التذكير، أو الحفظ والاستظهار عن غيب»
من هذا المنطلق بات لزاماً على الأسرة والبيئة التعليمية أن تدمج الجيل في الثقافة المجتمعية قارئا وفاحصا ومبتكرا يتقن لغة التأثير والإلهام من مرتكز عميق الأثر من إرثنا العربي شعراً ونثراً، فما زالت اللغة الشعرية تبرهن عبقرية العربي البدوي في صناعة ملاحم العز المغناة حتى عصرنا الحاضر، من القلة النخبوية تنبثق رؤية جديدة لإبداع الجيل الذي أتقن بالمحاكاة صوت الماضي ووقف على مسرح قرية التأسيس في لوحة فنية بالعقال المقصب والدقلة والبشت والجنبية وصوته بالفخر يهزج من ألحان النصر العظيمة:
نَحْمَدُ اللَّهَ جِت عَلَى مَا تمنّى
مَنْ وَلِيَ الْعَرْش جَزَل الوهايب
خَبَر اللَّيّ طَامِعٌ فِي وطنّا
دُونَهَا نُثْنِي إلَى جِت طلايب
ديرة الْإِسْلَام حامينها إنّا
قاهرينٍ دُونَهَا كُلّ شَارِب