د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
دَعُوا مُقلتي تبكي لِفَقدِ حبيبها
لِيُطفئَ بردُ الدمعِ حرَّ لَهيبِها
طلبتُ من صديق عزيز عليَّ أن يكتب مقالاً عن أُمِّه -رحمها الله - فاعتذر أنه لا يستطيع؛ لأنه لا يحتمل الكتابة عنها، وما زلت أتخوله بالمعاتبة؛ إذ كيف كَتَبَ عن بعض الناس ولا يكتب عن أقرب الناس إليه! ثم بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات من وفاة أمه جرت بيننا مهاتفة كالعادة، فقال بعد السلام: تسمع، قلتُ: كلي أذن صاغية، ثم بدأ يقرأ من مطلع مقال يكتبه عن أمه فلم يملك دمعه! وقال: اعذرني لا أستطيع الإكمال، فقلت له: ابك ولتدمع عينك، ولتخرِجْ ما في نفسك فلا لوم عليك، فالمصيبة عظيمة، والفراق مؤلم، وأكمل الكتابة، فأحرفك هذه من أصدق الأحرف النابضة بالحياة.
والدمع يُذهِبُ بعضَ جُهْدِ الجاهد
قال الأصمعي -رحمه الله -: قلتُ لأعرابي: ما بال المراثي أجود أو أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وأكبادنا تحترق!
وقال معمر بن المثنى رحمه الله: أحسن مناطق الشعر، المراثي والبكاء على الشيب.
لَقَد ذَرَفَت عَيني وَطالَ سُفوحُها
وَأَصبَحَ مِن نَفسي سَقيماً صَحيحُها
شكا إليَّ صديق من المشايخ الكرام بعض غصص الحياة، وما لقيه من مشكلات شاب منها عارضاه، فقلت: ابك وخلِّ الدمع يجري! لا تتجلد عن البكاء إن جاء سببه، فهو يسلي النفس ويريحها!! فنظر إليَّ وتعجب كثيراً، فقلت: رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل الخلق، وأتمهم في الأخلاق، بكى في مناسبات استوجبت بكاءه صلى الله عليه وسلم، وجاء عن سلفنا الصالح أن البكاء يسلي، ثم قلت له: إن أبابكر بن عياش رحمه الله (وقد وصفه الذهبي: بشيخ الإسلام) قال: كنتُ في الشباب إذا أصابتني مصيبة تجلدت، ودفعتُ البكاءَ بالصبر، فكان ذلك يؤذيني ويؤلمني، حتى رأيت أعرابياً بالكناسة، واقفاً على نجيب (يعني جمله)، وهو ينشد:
خَليليَّ عُوجَا من صُدُورِ الرّوَاحِلِ
بجُمهُورِ حَزْوَى فابكِيَا في المَنازِلِ
لَعَلَّ انحِدَارَ الدّمعِ يُعقِبُ رَاحَةً
مِنَ الوَجْدِ أوْ يَشفي نَجيَّ البَلابِلِ
فسألت عنه، فقيل: ذو الرُّمة، فأصابتني بعد ذلك مصائب، فكنتُ أبكي، وأجد لذلك راحةً، فقلت: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره بدواء الحزن!
وجاء عنه أنه قال: فصرتُ إذا حزنتُ بكيتُ، فأجد لذلك راحة عظيمة!
وابن المبرد في الكامل أوردها عن أبي بكر بن عياش أنه قال: نزلتْ بي مصيبة أوجعتني، فذكرت قول ذي الرمة:
لَعَلَّ انحِدَارَ الدّمعِ يُعقِبُ رَاحَةً
مِنَ الوَجْدِ أوْ يَشفي نَجيَّ البَلابِلِ
فخلوتُ فبكيتُ فسلوتُ!
فلما سمعها صاحبي مني فرح بها وبكى بعدها!
أُوصيكَ بالحُزنِ لا أُوصيكَ بالجَلَدِ
جَلَّ المُصَابُ عن التَّفنيدِ والفَنَدِ
أَبْكِي بِدَمْعٍ لَهُ مِنْ حَسْرَتِي مَدَدٌ
وَأَسْتَرِيْحُ إِلَى صَبْرٍ بِلا مَدَدِ
لم أذكر لصاحبيَّ - جعل الله أيامهما سرورًا - أن من العقوبة أحياناً ألا تبكي!
وكم عاقبنا أنفسنا بترك البكاء إذا جاء وقته، وقام سببه.
ذكر ابن جرير الطبري رحمه الله في تأريخه بسنده قال: ناحتْ قريش على قتلاهم -يعني وقعة بدر الكبرى-، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدًا وأصحابه فيشمتوا بكم، ولا تبعثوا في أَسْراكم حتى تَسْتَأنوا بهم، لا يَأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء.
قال ابن كثير رحمه الله «البداية والنهاية» معلقاً على هذا: (وكان هذا من تمام ما عذَّب الله به أحياءهم في ذلك الوقت، وهو تركهم النوح على قتلاهم، فإن البكاء على الميت مما يُبِلُّ فؤاد الحزين).
ولا شك في الفرق بين النياحة المحرمة وبين البكاء، فقد فرق بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ففي الصحيحين عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه، وتخبره أن صبيًّا لها، أو ابنًا لها، في الموت، فقال لرسولها: «ارجع إليها، فأخبرها: أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فَمُرْهَا فلتصبر ولتحتسب»، فعاد الرسول فقال: «إنها قد أقسمت لتأتينها»، فقام النبي صلى الله عليه وسلم، وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل، وانطلقت معهم، فرُفع إليه الصبي ونفسه تَقَعْقَعُ كأنها في شَنَّةٍ، ففاضت عيناه صلى الله عليه وسلم، فقال له سعد: ما هذا؟ يا رسول الله! قال: «هذه رحمة، جعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء».
قال النووي رحمه الله: (معناه: أن سعدًا ظن أن جميع أنواع البكاء حرام، وأن دمع العين حرام، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي، فذكَّره، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن مجرد البكاء ودمع بعين ليس بحرام ولا مكروه بل هو رحمة وفضيلة، وإنما المحرم النوح والندب والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما).
وقال ابن القيم رحمه الله: (فهذه... تدل على عدم كراهة البكاء، فتعين حمل أحاديث النهي على البكاء الذي معه ندب ونياحة).
أَبْكِي وَقَدْ ذَهَبَ الفُؤَادُ وَإِنَّمَا
أَبْكِي لِفَقْدِكَ لَا لِفَقْدِ الذَّاهِبِ
لما مات إبراهيم ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم نقل إلينا أنس -رضي الله عنه - الحال كما في الصحيحين قائلاً: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبَّله وشمَّه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟! فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة» ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: «إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون».
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله:(بكى صلى الله عليه وسلم رحمةً ورقَّة، فحملته الرحمةُ على البكاء).
وإذا فقدْتَ أخاً ولم تفقدْ لهُ
دمعاً ولا صبراً فلستَ بفاقدِ
والبكاء ودمع العين لا ينافي الصبر، وبلفظ ابن القيم (لا ينافيه البكاء والحزن)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أكمل الناس صبراً، وكم سالت الدموع على وجنتيه فداه أبي وأمي، بل بكى صلى الله عليه وسلم لمرض بعض أصحابه ولم يحبس دمعه وبكاءه، فقد جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غَشِيَّةٍ، فقال: «أقد قضى؟» قالوا: لا يا رسول الله! فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال صلى الله عليه وسلم: «ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا (وأشار إلى لسانه) أو يرحم».
قال ابن القيم رحمه الله: (وأما بكاؤه صلى الله عليه وسلم فكان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كان تدمع عيناه حتى تهمُلا، ويُسمَع لصدره أزيز. وكان بكاؤه تارةً رحمةً للميت، وتارةً خوفًا على أمته وشفقةً، وتارةً من خشية الله، وتارةً عند سماع القرآن وهو بكاءُ اشتياقٍ ومحبَّةٍ وإجلالٍ مصاحبٍ للخوف والخشية).
وتأمل في هذا الموقف الجالب للبكاء! فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله» رواه مسلم.
ويبكي فأبكي رحمةً لبُكائهِ
إذا ما بكى دمعاً بكيتُ له دما
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى جعفرًا وزيدًا قبل أن يجيء خبرهم، وعيناه تذرفان. رواه البخاري.
قال ابن القيم رحمه الله:(وصح عنه صلى الله عليه وسلم: «أنه قبَّل عثمان بن مظعون حتى سالت دموعه على وجهه»).
قال ابن بطال رحمه الله:(كل حديث أتى فيه النهى عن البكاء، فمعناه النياحة عند العلماء).
وقال ابن عبد البر رحمه الله: (هذه الأحاديث كلها، تدل على أن البكاء غير النياحة، وأن النهي إنما جاء في النياحة، لا في بكاء العين).
حتى قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: «لكن حمزة لا بواكي له».
بكيتك إشفاقاً عَلَيْك وحسرة
لَعَلَّ البُكا من شدَّة الوجد ينفعُ
هذا بعض ما جاء عن رسولنا صلى الله عليه وسلم من دمع عينه وبكائه في مناسبات استدعت الدمع، ومن استشعر تلك المواقف بكى، ومن غاب إحساسه القلبي عن أمثالها فلينظر أحوى جوفه قلبًا؟!
قال الله عن يعقوب عليه السلام: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}.
قال أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: انطلق بنا إلى أم أيمن نزورها، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزورها، فلما انتهينا إليها بكت! فقالا لها: ما يبكيك؟ ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما أبكي ألا أكون أعلم أن ما عند الله خير لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء. فهيجتهما على البكاء. فجعلا يبكيان معها. رواه مسلم.
وبكى أبوبكر رضي الله عنه لما كشف عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى قد لحق بالرفيق الأعلى. رواه البخاري.
وقال عمر رضي الله عنه: دَعْهُنَّ يَبْكِينَ على أبي سليمان -يعني خالد ابن الوليد-، ما لم يكن نقع أو لقلقة.
والنقع: التراب على الرأس، واللقلقة: الصوت، كما في صحيح البخاري.
وفي الصحيحين عن سعيد بن جبير رحمه الله أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: يوم الخميس وما يوم الخميس! ثم بكى حتى بَلَّ دمعه الحصى، قلت: يا أبا عباس، ما يوم الخميس؟ قال: اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه..
كتمتُ الهوَى حتَّى بدا كتَمانهُ
وفاضَ فنمَّتْهُ عليَّ المدامعُ
ولو لمْ يفضْ دمعي لعادَ إلى الحشا
فقطَّعَ ما تُحنى عليهِ الأضالعُ
بكتْ أُمُّنا عائشة -رضي الله عنها - في مواقف متعددة، ومن أعظمها حادثة الإفك حتى قالت كما في الصحيحين: (وقد بكيتُ ليلتين ويومًا، لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، حتى إني لأظن أن البكاء فالق كبدي، فاستأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي).
رضي الله عن تلك الأنصارية وما أجمله من موقف ولو كان بكاءً!
قال الخليفة الراشد عمر -رضي الله عنه-: فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك؟ فإن وجدتُ بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما! رواه مسلم.
قال مُبارك بن فَضالة -رحمه الله-: دخلنا على الحسن البصري حين نُعي له أخوه وهو يبكي، فعزَّاه بكر بن عبد الله وقال: إن الناس يرونك تبكي فيذهبون بهذا إلى عشائرهم فيقولون: رأينا الحسن يبكي عند المصيبة، فيحتجون به على الناس، فحمد الله الحسن وأثنى عليه وقد خنقتْه العَبْرة، وقال: إن الله جعل هذه الرحمة في قلوب المؤمنين؛ فيرحم بها بعضهم بعضًا، فتَدمع العين، ويَحزن القلب، وليس ذلك بجَزَع، إنما الجزع ما كان من اللسان واليد، ثم قال: إن الله لم يجعل حُزْنَ يعقوب عليه ذنبًا ولا عارًا، قال: {وَابْيَضَّتْ عَينَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ}، ورحم الله سعيد بن أبي الحسن، ما كانت تنزل بي شِدّة إلا وكان يَودُّ أنه لو فداني بنفسه.
وَمِنَ الجَهالَةِ أَن تُعَنِّفَ باكِياً
وَقَفَ الغَرامُ بِهِ عَلى مَجهولِها
إِنَّ الدُموعَ هِيَ الصَبابَةُ فَاِطَّرِح
بَعضَ الصَبابَةِ تَستَرِح بِهُمُولِها
قال عبيد بن عمير -رحمه الله -: «ليس الجزع أن تدمع العين ويحزن القلب، ولكن الجزع القول السيئ والظن السيئ».
أُصيب رجل من رؤوس قومه في أخيه وابنه من بني عصرنا وكان متجلداً للمصيبة، فعزاه الناس ثم دخل المستشفى بعد أيام من همِّ المصيبة، فزاره أحد الفضلاء، فكأنَّ روحه هائمة فيما أصابه مع تجلد وعدم تشكِّي، فطلب الزائر من الحاضرين لزيارته أن يخلو بالمصاب، وطلب ألا يدخل أحد عليهما، فلما خرج الحاضرون، قال له: يا أبا فلان المصيبة عظيمة، وعلى قلبك كبيرة، عوضك الله خيراً ورحمهما الله، لكني أراك تُمسك نفسك، وتحبس دمعك، حتى دخلت المستشفى، فأخرج ما في صدرك، فهو شفاؤك بإذن الله، فما استتم كلامه حتى انفجر بالبكاء كالطفل! وما أمسى تلك الليلة إلا في بيته قد ذهب ذبوله، وتنفست روحه!
تضيقُ جفونُ العينِ عنْ عبراتها
فتفسحُها بعدَ التَّجلُّدِ والصَّبرِ
وغُصَّةِ صدرٍ أظهرتْها فرفَّهتْ
حرارةَ حزنٍ في الجوانحِ والصَّدرِ
وكنتُ مرة في جنازة والد لأحد أصحابي رحمه الله فلما دُفن التف أولاده حول قبره والدموع على وجناتهم بلا صوت يسمع، فجاء رجل من جماعتهم فنهاهم! وأراد كذلك أن يقيمهم ليعزيهم الناس، فأشرتُ إليه دعهم فميتهم أولى والدموع هذا وقتها.
سارتْ مقدَّمةُ الدُّموعِ وخلَّفتْ
حُرقاً توقَّدُ في الحشا ما ترحلُ
إنَّ الفراقَ كما علمْتَ فخلِّني
ومدامعاً تسعُ الفراقَ وتفضلُ
قال ابن عبدالبر -رحمه الله -:(رخص جمهور العلماء في بكاء العين في كل وقت).
ولقدْ ألِفتُ الدَّمعَ حتَّى ربَّما
جرتِ الجفونُ بهِ ولم أعلمْ بهِ
أيها القارئ الكريم، لا أقول: ابك! ولا أقول: لا تبك، لكنَّ البكاء في محله مع سببه الصحيح كمال لا نقص، والطبائع تختلف.
كنتُ في مجلس الشيخ راشد بن خنين رحمه الله فجاء الحديث عن سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - فتغيَّر صوت الشيخ راشد واغرورقت عيناه بالدموع، بل دمعت، فقيل له: هل رثيتم سماحته بقصيدة؟ فأجاب غفر الله له: لم أستطع! المصاب أكبر من ذلك.
قال الفرزدق:
أَلمْ ترَ أَني يومَ جوِّ سُويقةٍ
بكيتُ فنادتْني هُنيدةُ ماليا
وكانَ جوابي أنْ بكيْتُ صبابةً
وفدَّيْتُ من لوْ يستطيعُ فدانيا
فقلتُ لها: إنَّ البكاءَ لراحةً
به يشتَفي من ظَنَّ أَلَاّ تلاقيا
كم كان الدمع راحة واستراحة، وهو الجواب لوقائع وذكريات وأحداث وأسئلة! حتى قال أحمد شوقي:
وكنتُ إذا سألتُ القلب يومًا
تولى الدمعُ عن قلبي الجوابَا
وقال ذو الرمة البصير بدواء الحزن:
فوالله ما أدري أجوْلانُ عبرةٍ
تجودُ بها العينانِ أحرى أمِ الصَّبرُ
وفي هملانِ العينِ من غُصَّةِ الهوَى
رواحٌ وفي الصَّبرِ الجلادةُ والأجْرُ
ودمع العين إنما هو تنفيسٌ للنفس، وتنفُّسٌ للروح، وَنَفَسٌ للقلب، واسترواح عن الحزن، واستطلاق من حبس.
قيل لبُثيْنة هذا جميل حصل عليه ما حصل: هل عندكِ من شيء تُنفِّسين به وجده؟ فقالت: ما عندي أكثرُ من البكاء!
أقولُ وقد غصَّت عيونٌ بِمائها
علينا ومن دَمعي كَمينٌ ومُرْسَلُ
وَجدتُ دموعَ العينِ تَجري غُروبُها
أَخفَّ على المَحْزونِ والصَّبرُ أَجملُ
ومع التحفظ من البكاء على مسألة الهوى! غير أني لم أر كالحب في الله مثالاً صادقاً للوفاء ممن لا يأتي به النسب، فكم سبقنا أقوام أحببناهم لله ربما جرت العين على تذكرهم، وعلى طيب ذكراهم التي تعطر المجالس! كما قال شيخنا فهد بن جاسر الزكري حفظه الله وختم لنا جميعاً بخير.
قال طاووس رحمه الله: (ما رأيت أحدًا من خلق الله أشد تعظيماً لمحارم الله عز وجل من ابن عباس، وما ذكرتُه قط فشئتُ أن أبكي إلا بكيتُ، ولقد رأيتُ على خديه مثل الشراكين من بكائه على رسول الله صلى الله عليه وسلم).
أظَلُّ ردائي فوق رأسي قاعداً
أعُدُّ الحَصى ما تنقَضي عَبَراتي
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (إذا كان البكاء رحمةً للمَبْكِيِّ عليه فهذا حسنٌ مستحبٌّ)، وقال: (البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب وذلك لا ينافي الرضا؛ بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه).
أعينيَّ كفَّا الدَّمعَ لا تُشمتا بنا
عدوّاً ولا يُحزنْ صديقاً بكاكُما
فائدتان:
الفائدة الأولى: البكاء أنواع، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله عشرة أنواع، وفرَّق بين المتشابه منها، فقال:(والفرق بين بكاء السرور والفرح وبكاء الحزن: أن دمعة السرور باردة والقلب فرحان، ودمعة الحزن حارَّة، والقلب حزين.
ولهذا يقال لما يُفرَح به: هو قُرَّة عين، وأقرَّ الله عينه به؛ ولما يُحزِن: هو سُخْنةُ عين، وأسخن الله عينه به).
قال مبارك بن فَضَالة رحمه الله: صلى الحسنُ البصري الجمعة وجلس، فبكى، فقيل له: ما يبكيك يا أبا سعيد؟ فقال: تلومونني على البكاء، ولو أن رجلًا من المهاجرين اطَّلع من باب مسجدكم ما عرف شيئًا مما كان عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم اليوم عليه؛ إلا قِبْلَتكم هذه!
الفائدة الثانية: قال ابن أبي مليكة رحمه الله: توفيت ابنة لعثمان رضي الله عنه بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وإني لجالس بينهما، أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي، فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه).
فقال ابن عباس رضي الله عنهما: قد كان عمر رضي الله عنه يقول بعض ذلك، ثم حدث قال: صدرت مع عمر رضي الله عنه من مكة، حتى إذا كنا بالبيداء، إذا هو بركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ قال: فنظرت، فإذا صهيب، فأخبرته، فقال: ادعه لي، فرجعت إلى صهيب فقلت: ارتحل، فالحق أمير المؤمنين، فلما أصيب عمر، دخل صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، وا صاحباه، فقال عمر رضي الله عنه: يا صهيب، أتبكي عليَّ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: فلما مات عمر رضي الله عنه، ذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها، فقالت: رحم الله عمر، والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله ليزيد الكافر عذابًا ببكاء أهله عليه). وقالت حسبكم القرآن: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. قال ابن عباس رضي الله عنهما عند ذلك: والله هو أضحك وأبكى.
قال ابن أبي مليكة: والله ما قال ابن عمر رضي الله عنهما شيئًا. رواه البخاري ومسلم.
وفي صحيح مسلم: لما أصيب عمر أقبل صهيب من منزله حتى دخل على عمر، فقام بحياله يبكي، فقال عمر: علام تبكي؟ أعليَّ تبكي؟ قال: إي والله! لعليك أبكي يا أمير المؤمنين! قال: والله! لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من يُبْكَى عليه يعذب». قال: فذكرت ذلك لموسى بن طلحة. فقال: كانت عائشة تقول: إنما كان أولئك اليهود.
قال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»؛ فقد أشكل على كثير:
فطائفة ظنت أنه غير صحيح؛ كعائشة رضي الله عنها، والشافعي.
ومن الناس من يتأوله على ما إذا أوصى به.
ومنهم من تأوله على ما إذا لم ينه عنه مع اعتيادهم له.
وهؤلاء ظنوا أن العذاب لا يكون إلا على ذنب، فاحتاجوا إلى أن يجعلوا للميت ذنبًا، وليس الأمر كذلك؛ بل العذاب قد يكون على ذنب، وقد لا يكون، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «السفر قطعة من العذاب»، وهو لم يقل: إنه يعاقب؛ بل يعذب بالإيذاء كما قد يتألم الحي بشم الرائحة الكريهة)، وقال: (وأما تعذيب الميت: فهو لم يقل: إن الميت يعاقب ببكاء أهله عليه، بل قال: «يُعذَّب»، والعذاب أعم من العقاب، فإن العذاب هو الألم، وليس كل من تألم بسبب كان ذلك عقابًا له على ذلك السبب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه)، فسمى السفر عذابًا وليس هو عقابًا على ذنب)، وقال: (وأما كون الميّت يتألَّم بعمل غيرِه، فهذا شيء آخر).
وقال ابن القيم رحمه الله:(وهذا العذاب يحصل للمؤمن والكافر... فإذا بكى أهل الميت عليه البكاء المحرم، وهو البكاء الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، والبكاء على الميت عندهم اسم لذلك وهو معروف في نظمهم ونثرهم، تألم الميت بذلك في قبره، فهذا التألم هو عذابه بالبكاء عليه، وهذه طريقة شيخنا في هذه الأحاديث).
لطيفة: عن بكاء الطفل، قال ابن القيم رحمه الله:( ولا ينبغي أن يَشُقَّ على الأبوين بكاءُ الطفل وصُراخُه، ولاسيَّما لشربه اللبن إذا جاع، فإنه ينتفع بذلك البكاء انتفاعًا عظيمًا، فإنه يروِّض أعضاءه، ويوسِّع أمعاءه، ويفسح صدره، ويسخِّن دماغه، ويحمي مزاجه، ويثير حرارته الغريزية، ويحرِّك الطبيعة لدفع ما فيها من الفضول..).
قال حافظ إبراهيم:
عَهِدناكَ لا تَبكي وَتُنكِرُ أَن يُرى
أَخو البَأسِ في بَعضِ المَواطِنِ باكِيا
فَرَخِّص لَنا اليَومَ البُكاءَ وَفي غَدٍ
تَرانا كَما تَهوى جِبالاً رَواسِيا
ختاماً، قال أبو ذؤيب الهذلي رحمه الله: قدمتُ المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أَهَلُّوا جميعًا بالإحرام، فقلت مه؟ فقالوا: قُبِضَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قَد كُنتُ أَعذُلُ قَبلَ مَوتِكَ مَن بَكى
فَاليَومَ لي عَجَبٌ مِنَ المُتَبَسِّمِ
وَأَذودُ دَمعي أَن يَبُلَّ مَحاجِري
فَاليَومَ أَعلَمُهُ بِما لَم يَعلَمِ
لا قُلتُ بَعدَكَ لِلمَدامِعِ كَفكِفي
مِن عَبرَةٍ وَلَوَ أَنَّ دَمعي مِن دَمي
قال حسان رضي الله عنه:
وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيُّهُمْ
وَقَدْ وَهَنَتْ مِنْهمْ ظُهُورٌ وَأَعْضُدُ
يُبَكُّونَ مَنْ تَبْكِي السَّمواتُ يَوْمَهُ
وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكْمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزِيَّةُ هَالِكٍ
رَزِيَّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ
لا والله ما عدلت، قال ابن رجب رحمه الله: (كل المصائب تهون عند هذه المصيبة.
في سنن ابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في مرضه: «يا أيها الناس، إن أحد من الناس - أو: من المؤمنين - أصيب بمصيبة، فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدًا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي».
قال أبو الجوزاء: كان الرجل من أهل المدينة إذا أصابته مصيبة جاء أخوه فصافحه، ويقول: يا عبد الله، ثق بالله، فإن في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة).
وقد روي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصاب أحدكم مصيبة، فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب».
وَإِذَا ذَكَرْتَ مَصِيْبَةً تَشْجَى بِهَا
فَاذْكُرْ مُصابَكَ بِالنَّبِيِّ مُحَمَّدِ
فمصيبتنا بوفاة رسولنا صلى الله عليه وسلم حدث هو أجلَّ الأحداث وأعظمها، فرضي الله عن الصحابة وضاعف أجورهم، ويا لهول تلك المصيبة عليهم، قال ابن رجب رحمه الله:(منهم من أُقعِد فلم يُطق القيام، ومنهم من اعتقل لسانه فلم يطق الكلام، ومنهم من أنكر موته بالكلية).
لِيَبْكِ رَسولَ اللهِ مَنْ كانَ باكِيًا
وَلا تَنْسَ قَبْرًا بِالمدينةِ ثاوِيا
جَزى اللهُ عَنَّا كُلَّ خَيْرٍ مُحَمَّدًا
فَقَدْ كانَ مَهْدِيًّا وَقَدْ كانَ هادِيا
**
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء