سهوب بغدادي
قطرات المياه الأكثر عذوبة في عين الناس، تنخر في الحجر الأكثر صلابة، لتترك الأثر لسنين مديدة، قد تكون شاهدة على أحداث وتاريخ عتيق، قد لا يعرف الشخص ما الظروف التي مرت بالحجر لتجعله على هيئته وشكله الحالي، والأغرب أن من كان في أولى فترات التأثير شهد ولم يستوعب ما سيكون، لأن التأثير البطيء يعد من التغييرات التي عندما تقع تبقى وترسخ وتتأصل، ومن الصعب تغييرها، لماذا؟ هناك عاملان يحولان دون عكس التأثير خاصةً عندما يكون سلبيًا، الأول، عامل الوقت، فمن يمتلك ذات المقدار من الوقت الذي أحدث التغيير؟ والثاني، عامل العزيمة والاستمرارية، فمن يستطيع تعريض المتغير لسلسلة متواترة من فعل معاكس للمحصلة الحالية، وهكذا نرى الناس، فكل شخص مثل الحجر الفريد، أتى لهذه الدنيا كاملًا مكتملًا خاليًا من الشروخ والكدمات، ثم يواجه سلسلة من الأحداث والمتغيّرات التي تترك أثرًا فيه للأبد، إما سلبًا أم إيجابًا، إن تلك القطرة الهينة هي ذات الكلمة الناقدة التي تأتي على عجل دون قصد، في حال معاودة القطرة سقوطها على ذات المكان، فتكون هذه المرة كسابقتها، في خضم رحلة التغيير سيجد الطرف الآخر أساليب للتكيّف والتخدير والانفصال عن الواقع، فتراه واهمًا أو تائهًا أو سابحًا في فلك خاص به، لا يقتحمه سواه، قد يبدو قصرًا باهيًا تعلوه أغلى الحلي والنقوش والبهرجة من الخارج، إلا أن ذاك القصر خالٍ ولا أحد مدعو إليه، فلا تعرف منه سوى أسواره الشاهقة واللامعة، كم منا يتظاهر بالقوة ليخفي ما يخاف إظهاره من الأقطاب المتضادة؟ كأنها معادلة مستحيلة الحل، تراكبت في روح واحدة، قوة وضعف، كره وحب، غل وتسامح، غلظة ولين، وتمتد القائمة، ليصل ذلك الحجر المتلاشي إلى مرحلة التدمير الذاتي، فيختار أن ينقسم إلى نصفين أو أشلاء، ويرحل بصمت، لو وضعنا قطرة الماء في كفة والصاعقة الخاطفة في كفة أخرى لرجحت كفة تلك القطرة، باعتبار أن الجرح البطيء أشد وطأة من الجرح الخاطف السريع، الجرح البطيء أصيل ومخلص لا ينفك عنا، ملازم لنا، أما السريع وإن عظم في ظاهره فهو لحظي، لذا يجب أن نختار جراحنا بعناية، والأهم الجراح التي نهديها لمن حولنا، سريعة كانت أم بطيئة، كم من مرب ترك خلفه إرثًا عظيمًا من الألم، وكم من صديق وضع علامة يصعب عكس مفعولها، ما بين كلمة جارحة، وفعل مهين، وسكوت جهوري عن الحق، وغياب السند الأمين تزهو الجراح.