أ.د.عثمان بن صالح العامر
كان بيده كتاب يقرأ فيه، وهو يحتسي قهوته الصباحية المعتادة، التفت إليّ -بعد أن لاحظ وجودي جالساً قريباً منه- وكأنّ شيئاً ما استثاره داخل النص فأحب النقاش حوله والاستفسار عنه قبل أن يواصل طي صفحاته والاستمتاع بفصوله، سألني عن نظرتنا -نحن الآباء- لجيل اليوم - له ولمن في سنه أو أصغر منه - وهم يعيشون زماناً غير زماننا، ويواجهون مستقبلاً يختلف كلية عمّا كنّا ننتظر بالأمس.
قلت له ولدي: نحن عشنا ما يسمى عصر المعلومة، وأنتم اليوم تعيشون زمن المهارة. كانت السيادة في وقتنا المتصارم للعالم والعارف، للفقيه والمرشد، للمفكر والمثقف الذين يملكون كمَّاً معرفياً أكثر، ويحدثون الناس عن كل شيء، ويوجهونهم في كل شيء، مع الاحتفاظ لهم في امتلاك مهارة التأثير والقدرة على الإقناع، ولكن يبقى الأساس (المعلومة التي توجد عندهم في الوقت الذي يبحث فيه الآخرون عنها). خلاف الوضع في العصر الراهن حيث صارت المعلومة ملك الجميع، ويمكن لكل إنسان أياً كان عمره ومستوى ثقافته ودرجة تعليمه وحقيقة تدينه والتزامه أن يحصل على المعلومة التي يريد دون أن يفتح كتاباً واحداً أو يذهب للمكتبة أو يستمع لبرنامج تلفزيوني أو حتى يقوم من مكانه الذي هو فيه، فقط عليه أن يقوم بضغط زر يوجد على لوحة مفاتيح جهازه المحمول الذي بيده أو كمبيوتره الشخصي الذي على مكتبه، ولذا صارت المعرفة تبعاً -بعد أن كانت هي الأساس- والمهارة أولاً، فصعد إلى منصة التتويج، وفاز بسباق الراهن من يملكون مهارات متخصصة سواء في المجال الطبي أو الهندسي أو التقني أو الرياضي أو الفني أو القانوني أو الخطابي أو الإعلامي أو التسويقي أو الغذائي أو الاقتصادي أو الدبلوماسي، ولذلك كان لزاماً على الشاب والفتاة أن يوليان جانب (التدريب المهاري) جل اهتمامهما في المجال الذي يميلان إليه ويهويانه مع حرصهما الشديد على التزود بالمعلومات اللازمة التي تعزز تميزهما وتقوي مركزهما وتجعلهما منافسين حقيقيين في السوق الحر الذي يحكمه كما نعرف جميعاً (عرض وطلب) والجودة والإتقان، والنفعية والسهولة، وامتلاك المهارات التسويقية للذات والمنتج، والشخصية العالمية ذات الجذر المحلي، هي جميعاً المعيار والمقياس.
في الوقت ذاته على محاضن التربية أن تكون على وعي تام بهذا التبدل والتحول في سلم ترتيب الأهمية بين المهارة والمعلومة ومن ثم العمل الجاد على جعل جيل اليوم متسلحاً بهما معاً مع إعطاء الجانب المهاري حقه الفعلي من الاهتمام والتكوين.
لا تفهم ولدي من كلامي هذا أنني أطلب منك ترك الكتاب الذي بين يديك، بالعكس القراءة في الكتاب هي في نظري الأساس، ولا يمكن أن تقارن بها أي قراءة أخرى، ويبقى الكتاب الورقي غذاء الروح، وخير جليس، يؤنس ويسعد، ويفتح الآفاق، ويوسع المدارك، وينمي الذاكرة، ويعزز التفاؤل، ويبعث الأمل، ويضع بين يديك تجارب العظماء الأفذاذ عبر التاريخ البشري الطويل، ويهيئك لخوض معركة الحياة وأنت متسلح بزاد المعرفة قادر على الوصف والتحليل والمقارنة والنقد، كان ولدي على موعد مع غدٍ جديد له رؤيته وتطلعاته وفيه تحدياته وفرصه حفظك الله ووفقك، وسدد على الخير خطاك، وجعلك دوماً في طليعة أترابك ومنافسيك، ودمت عزيزاً يا وطني ولي لقاء والسلام.