فهد عبدالله العجلان
حين أطلق سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رؤية السعودية 2030 بتوجيه من خادم الحرمين الشريفين في أبريل عام 2016 كانت حدثاً استثنائناً لم تعتد عليه ثقافة التنمية في المنطقة، إذ لم تكن الرؤية طرحاً نخبوياً أفرزته كعادتها اجتماعات القاعات المغلقة الغارقة بجدالات منظري التخطيط الاقتصادي، بل كانت نتاج عمل متواصل لفرق عمل من كل المستويات الإدارية والتنفيذية في المملكة بقيادة سموه شخصياً.. استثمرت منهجية علمية تحليلية دولية؛ لتشكل لأول مرة في الشرق الأوسط حراكاً مجتمعياً متكاملاً جسَّد ما يمكنني وصفه بتمكين المجتمع من المشاركة في الحق في التنمية وهو الجيل الثالث في أدبيات حقوق الإنسان.
كنت أتابع حينها ما يطرحه الإعلام الغربي خصوصاً وأقرأ حجم حنقهم ولمزهم للرؤية وكل ما يحيط ببلادنا من حراك تنموي داخلي، وكنت على يقين بأن إرادة الوطن ستكسر رهاناتهم، أذكر في إحدى رحلاتي الخارجية العملية آنذاك أني ألتقيت مجموعة من الاقتصاديين ورجال الأعمال والإعلاميين وحين علم أحدهم بأني سعودي أراد أن يمرر دعابة مبطنة حين جاء ذكر رؤية 2030 وسمع تقليلي من شأن الشكوك التي أطلقها الإعلام الغربي حينها حول نجاح الرؤية، ابتسم وقال: يبدو أنك لم تسمع المثل الذي يقول إن الشكوك حول الأحلام تقتلها أكثر مما يفعله الفشل نفسه! ثم أردف قائلاً: خصوصاً إذا جاءت من الخبراء! .. ضحك الحاضرون وابتسمت مخاطبا الساخر: أو يقتلها النجاح، عاد إلى جديته وقال: أتمنى ذلك!
الحقيقة أن ذلك الغربي الساخر لم يكن على خطأ، وقلت له حينها إنك تتحدث بذاكرة إعلامي عاصر الساسة الغربيين وبرامجهم الانتخابية ووعودهم وأحلامهم وصراعاتهم التي تقوم على محاصصة الأحلام إذا صدقوا! لكن امنح نفسك الفرصة لتقرأ الرؤية وتفاصيلها التي لو تحقق منها 20 % لكفى ابتسم وسكت..
لكن بعيدا عن السخرية التي يجزم صاحبها بخسارتها الآن، لنتفحص وعود الرؤية اليوم.. أعاد الأمير بناء مجتمع شاب جديد كان مليئا بالطاقات المعطلة رغم انتشار التعليم العالي، ليتحول أولئك الشباب إلى أكبر بانٍ وحامٍ لمكتسبات الوطن وبحماس شديد للمشاركة في أحلامه بتحقيق حلم السعودية أولا، أعاد الأمير بناء مواطن ومواطنة يدركان قيمة الإنتاج وكفاءته لرأس المال البشري التي لا يمكن جذب الاستثمارات النوعية في زمن التنافسية إلى أرضهم دون أن تكون راسخة في ضمائرهم، الإنفاق الحكومي لم يعد رقما نترقبه مع كل ميزانية بنهاية العام تطل علينا عبر الشاشات لتُنفذ خطط تنموية قصيرة الأمد تتأثر بعائدات النفط بشكل كبير، بل أصبح مرتبطا بمستهدفات ومؤشرات أداء ومشروعات تنموية كبرى تتجه لتحقيق تنويع مصادر الدخل وإحدى ركائز إستراتيجية جذب الاستثمارات، عززت الرؤية دور أطراف المجتمع بالإنفاق الاستهلاكي في قطاعات نوعية جديدة كالترفيه والسياحة لتعكس رؤية طويلة الأمد وهوية اقتصادية تحاكي المستقبل. تجاوز الاتفاق الاستثماري الحكومي الأطر التقليدية ليُدار من خلال صندوق سيادي نوعي يساهم بزيادة فرص التوظيف والإنتاج وزيادة المحتوى المحلي ودعم التوسع بالمشاريع الصغيرة والمتوسطة وفق رؤية مستدامة، كما أصبحت الميزانية أكثر شفافية؛ يمكن للمستثمر المحلي والدولي أن يقرأ أداءها بشكل ربع سنوي ويحظى بفرصة الاستماع إلى نقاش مستفيض نهاية كل عام مع الوزراء المعنيين، كما يمكن للمستثمر المحلي والأجنبي أيضا فرصة النقاش مع الفرق الحكومية التي تتابع تنفيذها من خلال لقاءات ومؤتمرات محلية ودولية، ولأن البيانات المحدثة الجوهرية هي ما يسعى المستثمرون لبناء قراراتهم من خلالها فإنها اليوم متاحة عبر المنصات الرقمية بشكل محدث ودائم!
نجح الأمير في رسم قاطرة التحول الوطني ليكون منصة اختبار لمسارات وبرامج رؤية 2030، كما نجح أيضاً في سنوات قليلة أن يجعل من المرأة التي كانت تقبع في آخر سلم المشاركة التنموية إلى مشارك فاعل فيه وبدرجة أبهرت العالم، لدرجة أن المملكة تجاوزت ما تصارع فيه أكبر إمبراطوريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في أمريكا وأوروبا ولم تفلح فيه حتى لحظة كتابة هذا المقال؛ وهو المساواة في الأجر بين الرجل والمرأة، نجح الأمير في إطلاق مشاريع كان مجرد التفكير فيها حلما بعيد المنال ظهرت المشاريع الكبرى مثل (نيوم وذا لاين والبحر الأحمر والقدية والدرعية التاريخية التي تمثِّل أكبر مشروع تراثي وثقافي في العالم)، ومشاريع تطوير وتنمية المدن ومشاريع جودة الحياة، كالمسار الرياضي والمكعب ومبادرات السعودية الخضراء، والشرق الأوسط الأخضر.. نجحت المملكة في الفوز باستضافة معرض إكسبو 2030 في الرياض؛ وهو أكبر معرض حضاري في تاريخ البشرية، وكذلك تنظيم كأس العالم في 2034، وعدد كبير من الفعاليات الفنية والرياضية والثقافية.. أعاد الأمير هيكلة المؤسسات وبناء هوية وطنية اندثرت معالمها فذابت في هويات الآخرين، بل كادت أن تندثر فشاهدنا الفتيان والفتيات في يوم التأسيس يزهون بأزياء الأجداد وحلي الجدات من كل مناطق المملكة بكل فخر واعتزاز في البيوت والشوارع والأسواق، تحقق كثير من مستهدفات الرؤية في أصعب القطاعات تنافسية قبل أوانها في الترفيه، كما صرح معالي رئيس هيئة الترفيه المستشار تركي آل الشيخ في حوار سابق، ومؤخراً كذلك احتفلت المملكة بالوصول إلى 100 مليون سائح وهو الرقم الذي كانت تستهدفه في 2030، أي تحقق المستهدف قبل ذلك التاريخ بـ7 سنوات.. أيضا شاهدنا الشباب من الجنسين في مواقع التواصل الاجتماعي يواجهون ويتصدون لأكبر حملات التشويه والتضليل ضد بلادهم بكل إصرار واقتدار وعفوية..
المملكة قلب العالم العربي والإسلامي، ولذا كان الأمير مدركا لأهمية أن يكون هذا القلب هو القائد وذلك العقل هو المخطط لمشروع النهضة الجديد.. ولأن الأمير امتداد لمدرسة سلمان الفكر والبناء لم يغرق في شعارات النهضوية البائدة؛ تلك التي فتحت أبواب الصراعات الإقليمية السرمدية التي ساهمت في تعزيز مواقع من أضرموا نارها أو استجابوا لإضرام هذه النار على حساب دولهم وشعوبهم.. فكان حديثه عن شرق أوسط مختلف يمثل أوروبا الجديدة التي ستكون محفزاٍ للعالم أجمع ونموذجاٍ لتحويل بؤر الصراع السياسي فيها إلى بؤر للتنمية وتبادل التجارب والمنافع.. سنوات قليلة يصعب على جهابذة الفكر قياس حجم الحلم بها فضلا عن تحقيقه!
حين ظهرت بوادر محادثات السلام بين المملكة وإسرائيل بمبادرة ومقترح أمريكي اعتقد أعداء الشعوب العربية والذين راهنوا على مشاريعهم التي أفقدتنا الأرض والقرار والتنمية والمستقبل. إن تلك فرصة سانحة للقضاء على عدوهم اللدود محمد بن سلمان.. كانوا يعتقدون أن الشعوب العربية التي أغرقوا أجيالها جيلاً بعد جيل في الخسائر لا تزال رهينة لأحلامهم وأوهامهم.. لكن حساباتهم كانت خاطئة، فالموقف السعودي كان واضحاً وثابتاً.. والوعي العربي والإسلامي لم يعد أسيرا لشعاراتهم الفارغة الممجوجة، فكل شاب سعودي وعربي اليوم يصدح بأعلى صوته اتركونا نجرب خيارات قادة التنمية والبناء بعد أن دمرت أجيالنا خطابات وعنتريات قادة الحروب الكلامية الخاسرة، وحين أدخل الجيش الإسرائيلي الغاشم ومن وقعوا في فخه المنطقة في أتون صراع حصد الآلاف من المدنيين الأبرياء؛ وقفت المملكة الراسخة الثوابت لتجمع العرب والمسلمين في قمة مشتركة جاءت مخرجاتها صادمة لكل المعادين والمزايدين على الشعارات والعنتريات في المنطقة، بما يعيد ترسيخ الثوابت ويعزز مسار التنمية في مقابل رهانات الدمار ..
أقول اليوم لذلك الغربي الساخر، والذي لم أتوقف كثيراً عند سخريته حين قالها ولم أتذكر حتى اسمه ليقيني أنها شنشنة أعرفها من أخزم كما تقول العرب.. أدركت في المثل الذي أوردتُه ذلك المساء أنه يصدق حين لا يكون سيف الحلم بيد قائد لا يتصل بجذور أرضه وقلوب شعبه.. أقول اليوم بكل فخر وأنا أتفيأ ظلال الإنجازات: إنها السعودية العظمى: نعم أيها الساخر الخاسر، شكك المشككون ولا يزالون، لكن الأحلام قتلت تلك الشكوك بسيوف الإنجازات وهي تتراقص في كف الأمير وشعبه الطموح مرددةً على قمة جبل طويق الشاهقة (نحمد الله جت على ما تمنى..!)