د.خالد السيد حسن
تقديم:
سنحاول في هذه السلسلة من المقالات (أربع مقالات) استعراض مفاهيم التغيرات المناخية العالمية وحقوق الإنسان الدولية ومدى الترابط بينها. بينما نستعرض في المقال الثاني تأثير التغيرات المناخية العالمية على حقوق الإنسان الدولية. وفي المقال الثالث نتعرض لأهم الاستجابات والتحديات الدولية لمجابهة التغيرات المناخية العالمية المؤثرة على حقوق الإنسان الدولية. كما سيتم استعراض وإيضاح أهمية دور المشاركة المجتمعية وأهم التدابير والسياسات الدولية للحماية والتخفيف والتكييف مع الآثار الضارة للتغيرات المناخية بما يضمن ويعزز حقوق الإنسان الدولية. وتأتي تلك المجموعة من المقالات بعدما نشر لي سابقاً، وفي نفس الجريدة، «جريدة الجزيرة» الغراء، سلسلة من أربع مقالات أيضاً تحت عنوان «التنمية المستدامة والتغيرات المناخية» خلال الفترة من 20 أغسطس 2021 حتى 19 نوفمبر 2021. متمنياً أن يتم النفع والاستفادة منهما في توعية القراء وإثراء معلومات الباحثين بالآثار السلبية للتغيرات المناخية العالمية ومدى تأثيرها على العديد من الأهداف والسياسات التنموية والحقوق الإنسانية. وقد أتبعنا في تحليلنا أسلوب المراجعة المنهجية. طريقة المراجعة المنهجية وهي نوع من مراجعة الأدبيات التي تجمع المعلومات والجداول والبيانات من العديد من الدراسات والبحوث السابقة، وتقدمها بطريقة جديدة ومختلفة لتسهيل تحقيق هدف الدراسة وهو توضيح مفاهيم التغيرات المناخية والبيئية وحقوق الإنسان والعلاقة بينهما.
أولاً: المفاهيم:
تغير المناخ: هو عبارة عن التغيرات الطويلة الأمد في نمط الطقس على الأرض. وهو يشير إلى التغيرات في المتوسطات الجوية والنمط العام للطقس خلال فترة زمنية طويلة الأمد، تمتد على مدى عقود أو أكثر. وتشمل تلك التغيرات زيادة في درجات الحرارة العامة للأرض (الاحتباس الحراري)، وتغيرات في نسب الأمطار ونمط توزيعها، وارتفاع مستوى سطح البحر، وتغيرات في نمط الرياح والعواصف.
تعتبر الأنشطة البشرية، مثل احتراق الوقود الأحفوري وإنتاج غازات الاحتباس الحراري، أحد العوامل الرئيسية التي تساهم في تغير المناخ. تزيد غازات الاحتباس الحراري من تركيزها في الجو وتحبس الحرارة في الغلاف الجوي للأرض، مما يؤدي إلى زيادة في درجات الحرارة العالمية. هذه الظاهرة تعرف بالاحتباس الحراري وتعتبر السبب الرئيسي وراء التغيرات المناخية التي نشهدها حالياً.
ويكفي استعراض الرسم البياني المرفق، والذي قدمته وكالة ناسا في إحدى دراساتها عام 2023، للوقوف على مدى التزايد في مستويات غازات الاحتباس الحراري ويقصد منها بصفة أساسية غاز ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوي عبر العصور حتى يومنا الحالي. استمدت بيانات هذا الرسم البياني من عينات الغلاف الجوي الموجودة في قلوب الجليد والقياسات المباشرة الأحدث. لقد تغير مناخ الأرض عبر التاريخ «خلال الـ800 ألف عام السابقة»، مرت خلالها الأرض بـ8 دورات من العصور الجليدية تخللتها فترات أكثر دفئاً. وكانت نهاية العصر الجليدي الأخير قبل حوالي 11700 سنة، بمثابة بداية عصر المناخ الحديث والحضارة الإنسانية. تعزى معظم التغيرات المناخية السابقة لهذا التاريخ إلى اختلافات طفيفة في مدار الأرض أو إلى تغير كمية الطاقة الشمسية التي كانت تتلقاها الأرض. ويقدم الرسم البياني دليلاً على أن ثاني أكسيد الكربون قد زاد في الغلاف الجوي منذ الثورة الصناعية، نتيجة للأنشطة البشرية منذ منتصف القرن التاسع عشر، واستمر هذا التزايد بمعدلات لم نشهدها على مدى آلاف السنين السابقة. بالتأكيد أنتجت الأنشطة الصناعية البشرية المزيد من الغازات الدفيئة التي احتجزت في الغلاف الجوي، وأضافت المزيد من الطاقة إلى النظام الأرضي بجانب طاقة الشمس. وقد أدت هذه الطاقة الإضافية إلى ارتفاع درجة حرارة الغلاف الجوي والمحيطات والأرض، وحدثت تغيرات واسعة النطاق وسريعة في الغلاف الجوي والمحيطات والغلاف الجليدي والمحيط الحيوي.
المصدر: الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء (ناسا). (2023). «كيف نعرف أن تغير المناخ حقيقياً؟». https://climate.nasa.gov/evidence/ (باللغة الإنجليزية)
تتضمن آثار تغير المناخ ارتفاع مستوى سطح البحر، وتغير نمط الهطول، وانتشار الأمراض، وتغير نظم النبات والحيوان، وتأثيرات اقتصادية واجتماعية على البشرية. يعتبر التغير المناخي تحدياً عالمياً يتطلب تعاوناً دولياً للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة وتبني استراتيجيات للتكيف مع التأثيرات المترتبة على التغير المناخي.
حقوق الإنسان: هي مجموعة من الحقوق التي يعترف بها المجتمع الدولي وتضمن حماية كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية بغض النظر عن الجنسية أو الجنس أو الأصل القومي أو العرقي أو اللون أو الدين أو اللغة أو أي محددات أخرى. وهي تتراوح بين الحق الأكبر لكل البشر وهو «الحق في الحياة»، وباقي الحقوق التي تجعل الحياة تستحق العيش، مثل الحق في المأوى والأمن والغذاء والمياه والصحة والعدالة والمساواة. تتمثل حقوق الإنسان الدولية في مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات والوثائق الدولية التي تم تبنيها على المستوى العالمي. ومن أبرز هذه الوثائق:
1 - الإعلان العالمي لحقوق الإنسان:Universal Declaration of Human Rights والذي تم إعلانه عام 1948 من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. هو أول وثيقة قانونية تحدد حقوق الإنسان الأساسية التي يجب حمايتها عالمياً. ومازال هذا الإعلان، الذي يبلغ عامه السادس والسبعين في 10 ديسمبر/ كانون الأول 2024، يشكل الأساس للقانون الدولي لحقوق الإنسان. وتوفر مواده الثلاثون المبادئ واللبنات الأساسية لاتفاقيات ومعاهدات حقوق الإنسان الحالية والمستقبلية وغيرها من الصكوك القانونية.
2 - العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: International Covenant on Civil and Political Rights وهو معاهدة قانونية دولية، تم إقرارها عام 1966، ويكفل حقوقاً مثل حقوق الحياة والحرية الشخصية وحرية التعبير والدين والعدالة العادلة.
3 - العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية: International Covenant on Economic, Social and Cultural Rights وهو معاهدة قانونية دولية تم إقرارها عام 1966، ويكفل حقوقاً مثل الحق في المأكل والمأوى والصحة والتعليم والعمل.
بالإضافة إلى هذه الوثائق، هناك العديد من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية الأخرى التي تعزز وتحمي حقوق الإنسان في مجالات مثل حقوق الأطفال، وحقوق النساء، وحقوق اللاجئين، وحقوق العمال، ومكافحة التعذيب والعنصرية والتمييز. يشكل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، إلى جانب العهدين - العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية - الشرعية الدولية للحقوق الإنسانية.
ثانياً: الارتباطات:
هناك عدة أوجه للارتباط بين التغيرات المناخية العالمية وحقوق الإنسان الدولية. فالتغير المناخي بمظاهره المختلفة يمثل تهديداً للعديد من الحقوق الإنسانية، أولها وأهمها حق الإنسان في الحياة والصحة. فزيادة درجات الحرارة والأحوال المناخية المتطرفة تؤدي إلى تفاقم المشاكل الصحية، وانتشار الأمراض المتعلقة بالحرارة والأمراض المنقولة عن طريق الحشرات. تتسبب التغيرات المناخية المتمثلة في زيادة تكرار وشدة الكوارث الطبيعية مثل العواصف العنيفة والفيضانات والجفاف وحرائق الغابات في خسائر بشرية كبيرة في الأرواح وخسائر اقتصادية هائلة وتهدد البنية التحتية وتوقف تقديم الخدمات الاجتماعية مثل الخدمات التعليمية والصحية، وكلها أمور تؤثر على حق الإنسان في الحياة والمأوى والصحة والتعليم والاستقرار الاقتصادي والأمن الاجتماعي.
يؤثر التغير المناخي على حق الإنسان في الحصول على مأوى آمن وكريم. الأحوال المناخية المتطرفة مثل الفيضانات والجفاف تجبر الناس على مغادرة منازلهم ومجتمعاتهم وتتسبب في زيادة التهجير القسري والنزوح البيئي، بحثاً عن أماكن أكثر أماناً واستقراراً. يؤدي ارتفاع درجات الحرارة إلى ذوبان الأنهار الجليدية والثلوج في المناطق القطبية، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع مستوى سطح البحر، ويهدد المناطق الساحلية والجزر بالغمر والتآكل، الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الممتلكات والبنية التحتية والنظم البيئية الساحلية، ويؤثر على حق الإنسان في الحياة والمأوى والاستقرار والأمن. التغير المناخي يؤثر على توفر المياه النظيفة والغذاء الكافي. زيادة الجفاف وتلوث المياه يعرض حقوق الإنسان المتعلقة بالماء النقي والصالح للشرب والغذاء الكافي للخطر. تؤثر التغيرات المناخية على نمط الأمطار وتوزيعها، حيث تتعرض بعض المناطق لزيادة فترة وكمية هطول الأمطار وبالتالي فيضانات وفترات رطوبة زائدة، بينما تشهد بعض المناطق الأخرى زيادة فترات الجفاف وانخفاضاً في مستوى وتوافر المياه العذبة. الأمر الذي يوثر على الزراعة وتوافر المياه والنظم البيئية المائية، وعلى حق الإنسان في الغذاء والمياه. التغير المناخي يؤثر بشكل خاص على الأطفال والنساء وكبار السن والفئات المهمشة. حينما يتعرض الأطفال للتهجير القسري، فإنهم يعانون من تأثيرات سلبية على صحتهم واستمرار تعليمهم. كما تتعرض الإناث بصفة خاصة إلى ترك التعليم والزواج المبكر، وإلى أخطار العنف والانتهاك الجنسي أثناء رحلة النزوح، ويكونون أكثر عرضة للفقر والجوع والمرض. التغير المناخي يؤثر على المجتمعات التي تعتمد على الموارد الطبيعية في معيشتها وثقافتها التقليدية، كما تتسبب التغيرات المناخية في تدهور الموارد الطبيعية، مما يهدد حقوق الإنسان بتلك المجتمعات في الحفاظ على ثقافاتهم ونمط حياتهم التقليدي. يؤدي التغير المناخي إلى تهديد التنوع البيولوجي وانقراض بعض أنواع الكائنات الحية. الأمر الذي يؤثر بشكل كبير على النظام البيئي، مثل الغابات والشعاب المرجانية والمناطق القطبية، ويؤدي إلى اختلال توازن النظم البيئية والتكيف البيولوجي. هذه بعض الأوجه التي توضح الارتباط بين التغيرات المناخية العالمية وحقوق الإنسان الدولية. ويختلف هذا التأثير من منطقة لأخرى تبعاً لشدة وتكرار التغيرات المناخية والأحداث المناية الشاذة. يجب أن ندرك أن التغير المناخي يعد تحدياً كبيراً للمجتمع الدولي، ويتطلب تعاوناً وجهوداً مشتركة لمعالجة هذه التحديات وحماية حقوق الإنسان في مواجهة التغير المناخي.