د. عبدالحق عزوزي
لا يخفى على كل متتبع أن حركية الطلاب يجب أن تكون مرنة داخل النظام الجامعي وبين مختلف الدول والمناطق. غير أن هذا التحول يطرح تساؤلاً جوهرياً مرتبطاً بالحفاظ على جودة الجامعات وباقي مؤسسات التعليم العالي الأخرى. هناك طبعاً وسيلة أخرى للتقليل من الفوارق بين الجودة والكمية في التعليم العالي، وهي القيام بدراسات قبلية لمعرفة حاجيات السوق، ومن ثم وضع البرامج التعليمية الملائمة. لكن هل الجامعة مكان يتعلّم فيه الطلاب طريقة التفكير أو مكان لاكتساب القدرات لولوج سوق الشغل بعد ذلك؟ إنه السؤال الفلسفي الأساسي الذي يطرح نفسه. وهنا أيضاً، على الجامعة أن تحدد مسبقاً وبوضوح رؤيتها ومهمتها وأهدافها ومكوناتها.
ولا جرم أن الجامعات التي لا تتكيّف وتقدم تكنولوجيا المعلومة والاتصال ستبقى بتراء. ونحن نعلم أن النصف الثاني من القرن العشرين شهد ثورة الاتصال الخامسة، حيث يمكن تمييز تطور الاتصال من خلال خمس ثورات أساسية، تتمثَّل الثورة الأولى في تطور اللغة، والثورة الثانية في الكتابة، واقترنت الثورة الثالثة باختراع الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر على يد العالم الألماني غوتنبرغ، وبدأت معالم ثورة الاتصال الرابعة في القرن التاسع عشر من خلال اكتشاف الكهرباء والموجات الكهرومغناطيسية والتلغراف والهاتف والتصوير الضوئي والسينمائي، ثم ظهور الراديو والتلفزيون في النصف الأول من القرن العشرين، أما ثورة الاتصال الخامسة فقد أتاحتها التكنولوجيا في النصف الثاني من القرن العشرين من خلال اندماج ظاهرة تفجر المعلومات وتطور وسائل الاتصال وتعدد أساليبه..
ولقد زلزل تقدم تكنولوجيا المعلومة والاتصال مناهج التعليم والتعلم، حيث أصبح من الصعب على أستاذ الجامعات العصرية، الغير ملم بالتقنيات الجديدة للتواصل مثل iTune ، second life، Youtube أو الدروس المجانية عبر الخط مثل MIT Open courseware أو edX أو khan Academy، أن يتماشى مع طلاب هم على دراية كبيرة بوسائل الإعلام الاجتماعية. علاوة على ذلك، فاللغة المهيمنة على مواقع الإنترنيت هي الانجليزية (57 في المائة)، متبوعة بشكل بعيد باللغات الأخرى: الألمانية (6.5 في المائة)، والروسية واليابانية والإسبانية والصينية (4 و5 في المائة) وأخيرا الفرنسية بنسبة (3.9 في المائة). وهذه أحد التحديات الرئيسية التي تواجهها الجامعات الحديثة النشأة وتتمثل في إقامة أرضية تكنولوجية تمكن الطلاب والأساتذة من الوصول إلى المعارف المتوفرة والمجانية. وهكذا، يمكن للأساتذة التحرر من قيد إعادة خلق الدروس، وبالتالي استغلال وقتهم في تدريب الطلاب بدل إغراقهم بمعلومات متوفرة في الإنترنيت.
كما أن تسويق المعارف يجب أن يكون من أحد أهداف الجامعة، وهاته الثقافة للأسف الشديد هي غائبة في العديد من جامعاتنا، فالثلاثية جامعة -حكامة- صناعة، هي التي تبني الأمم الغربية وتقوي صناعاتها وتساهم في بناء الحاضر والمستقبل. فاليابان دولة مساحتها محدودة جدة ولكنها تمثّل ثاني اقتصاد العالم، ولا يخلو بيت من بيوتات العالم إلا وتجد آلة أو حاسوباً أو هاتفاً صنع في هذا البلد؛ فاليابان عبارة عن مصنع كبير قائم على ثلاثية جامعة-حكامة-صناعة وعلى سياسات عمومية ثاقبة في مجال الصناعات المتطورة والاستثمارات الواقعية، يستورد كل المواد الخامة لإنتاج مواد مصنعة تصدرها لكل أقطار العالم؛ ونأخذ بلدة أوروبية وهي سويسرا. فبالرغم من عدم زراعتها للكاكو فإنها تنتج وتصدر أفضل شوكولتا في العالم؛ كما أنه رغم طبيعة جغرافيتها وضيق مساحتها الزراعية فإنها تنتج أهم منتجات الحليب في العالم. كما يمكن أن نرى اليوم كيف أن دولة مثل الهند بدأت تستفيد من تطور بحثها العلمي في الجامعة ومن الاستثمار في الموارد البشرية والتكنولوجيا المتطورة؛ كما أن بعض المحللين الاقتصاديين يتنبأون بأن الهند يمكن أن تحتل اقتصادياً الرتبة الثالثة عالمياً في حدود 2030 نظراً للتطور الهائل الذي يشهده القطاع الخاص الهندي؛ ولا غرو أنه لنا نفس القابليات الفكرية، ولكن الفرق يكمن في الجامعة التي نريدها لبلداننا... فالمطلوب اليوم من العديد من الدول العربية هو تطوير كل جامعاتها وكل العلوم، لأن تقدم الأمم تكون أولاً وأخيراً بالعلم... فيجب أن تكافئ بشكل جلي، اكتساب المعرفة وتوظيفها من خلال التعليم والتعلم والبحث والتطوير الثقافي، وجميع صنوف التعبير الأدبي والفني وإقامة مجتمع معرفي يصبو إلى تأسيس نمط إنتاج المعرفة عوضاً عن هيمنة نمط الإنتاج التقليدي.