د.محمد بن عبدالرحمن البشر
بعد بضعة أيام، سيحل شهر رمضان الكريم، شهر الصيام والقيام، وصلة الأرحام، شهر تتآلف فيه القلوب، وتتطهر النفوس، وتتغلّب العقول على العواطف، وتتصارع النفس الزكية الحاملة للواء الخير، مع النفس الأمّارة بالسوء الدالة على الشر، فيكون نتاج المعركة، خيراً وبركة، وفوزاً للنفس الزكية، فيزول الحقد والحسد، والغدر والنكد، ويقل الكبد، وتسمو النفوس، وتعلو الهمم، وينجلي الهمّ والغم، شهر تكثر فيه النعم، راجين أن نقيدها بالشكر والثناء والرضا، على جزيل العطاء، وأن نجعل نصيباً مما رزقنا الله لمحتاج إلى مطعم أو مشرب، أو قضاء دين عليه، أو ضائقة ألمت به، وأن تكون خالصة لوجه الله، لا رياء ولا سمعة، وقيل إن رجلاً موسراً، سأله أحد الناس صدقة، فأعطاه، فقال له صاحب له لم أعطيته، ولم تتأكد من حاله، فقال:
يكفيه ذل السؤال، حمانا الله وإياكم من الحاجة والدين، والدنيا دول، فقد تكون ثرياً اليوم وقادراً على العطاء، وقد ترى نفسك غداً غير قادر إلى البذل، بل قد تكون محتاجاً إلى من يمد لك العون، ارحموا ثلاثة: عزيز قوم ذل، وكريم افتقر، وعالم بين جهال، وما أصعب الحال إذا اجتمعت الثلاثة في آحاد الرجال، ويقول المقري المؤرّخ الأندلسي وصاحب كتاب نفح الطيب، وأزهار الرياض:
لقد رأيت في مدينة فاس حفيد أبي عبدالله الصغير آخر حاكم مسلم في الأندلس، يعمل حداداً في سوق الحدادين، فسبحان مغيّر الأحوال.
اعتاد المسلمون في صدر الإسلام الأول أن يحيوا ليالي شهر رمضان بالقيام، وأن يقضوا نهاره بالصيام، وقراءة القرآن، والجهاد في سبيل الله، لرد من يعتدي عليهم، كما أنهم يكثرون الاجتهاد في العشر الأواخر منه، تلمساً لليلة القدر، وفيه تكثر الصدقات، وصلة الأرحام والتسامح، ويقومون في الفجر، كما هو الحال في كل يوم من أيام العام، وينطلق كل منهم إلى كسب قوته، فالراعي يرعى إبله وغنمه، والتاجر يذهب إلى السوق للبيع والشراء، وآخر يحتطب، وهناك من يسافر في رحلة الشتاء والصيف التي اعتادت قريش القيام بها بين اليمن والشام، قال الله تعالى:
{لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}، وفي فترة لاحقه، وفي العصر الأموي أخذ الناس في إعطاء لياليه طابعاً خاصاً، مثل المسامرات الأدبية المحدودة، كما أن الموائد بدأت مميزة عن سائر الشهور، وهذا أمر متوقع مع الرخاء وكثرة المال والانفتاح على الثقافات الأخرى القائمة في ذلك العصر، واقتباس ما يمكن اقتباسه، إضافة إلى توفر أنواع متعددة من وسائل الإضاءة من شموع، وقناديل وغيرها، وفي العصر العباسي توسع الناس في الاحتفال به، وبعضها رسمت عادات رمضانية استثنائية، فهناك فئة من المجتمع تقوم الليل وتكثر من قراءة القرآن، وفئة أخرى تطيل السهر في المطارحات الشعرية والأدبية.
أثناء حكم الفاطميين، جعلوا لليالي رمضان احتفالات خاصة، فكانت مدينة الفسطاط بمصر التي سُميت في عهدهم بالقاهرة، ثم سُميت قاهرة المعز لدين الله الفاطمي، التي كان لجوهر الصقلي دور في أحداثها، كانت هذه المدينة الجميلة تحيي ليالي رمضان بالأناشيد الدينية، وتزيين الطرقات بالشموع والقناديل، والسهر، كما أن الطرق الصوفية أخذت في تمييز نفسها في احتفالاتها الرمضانية، ولقد امتد ذلك فيما بعد إلى كثير من أنحاء العالم الإسلامي، وكان للمغرب الإسلامي بما فيه الأندلس نصيب من جلب تلك الممارسات، وجاء ابن العربي، والتبريزي، فكانت الرقصات الصوفية، ومنه المولوية نسبة إلى المولى التبريزي، ومن الغريب أن اليهود يمارسون تلك الرقصات المولوية، وفيها يقومون بالإنشاد والدوران، والتمايل، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل المسلمين، وكذلك قصائد في الحب الإلهي، ثم ينطلقون الى الفضاء الرحب في رحلة روحية.
قبل نحو ثمانين عاماً دخلت بعض وسائل الإنارة الحديثة مثل الكهرباء، واستخدامات المكررات البترولية مثل الكاز، فكانت هناك السرج والأتاريك، ولا شك أنها نقلة كبيرة في تغيير نمط الحياة الليلية لا سيما الرمضانية، في دول معينة، لكن الكهرباء كانت قد دخلت إلى دول أخرى مثل مصر والعراق، قبل أن تعبر إلى دول أخرى، كان الشعراء مثل أحمد شوقي في مصر والأدباء وأصدقاؤهم يقضون قسطاً كبيراً من وقتهم في قهوة الفيشاوي الشهيرة، ويذهبون إلى الحسين وكان ليلهم نهاراً، ومثلهم في العراق نجد الجواهري ومعروف الرصافي وآخرين، يذهبون في المساء إلى شارع الرشيد، حيث الحياة الليلية الرمضانية تزخر بالحيوية والحركة الدؤوبة.
قبل أربعين عاماً كان الناس في مدينة الرياض وغيرها يلتحقون في رمضان بالمقاهي أو يبقون في منازلهم يتابعون المسلسلات الرمضانية، مثل وضحى وابن عجلان، والمسابقات التي يقدمها ماجد الشبل -رحمه الله- وأسلوبه البديع جاذباً للكثير من المشاهدين، أما موائد الإفطار فإن فاكهتها الشيخ الطنطاوي -رحمه الله - بحديثه المفيد والممتع.
اليوم نحن نعيش في عالم من التقنية تفوق الوصف، ربما يجعل المرء حبيس جهازه، ينظر إليه ويتخاطب من خلاله وقد جمعت الدنيا لديه في هذا لجهاز البديع، ولم يعد يحتاج إلى تواصل جسدي، مع أقربائه، وأصدقائه، أما المادة التي يتفاعل معها، فإنها تعتمد على ما حباه الله من عقل، وما اكتسبه من تربية.