د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
نشأ أستاذنا نشأة تراثية إذ ولد في مدينة عنيزة بمنطقة القصيم عام 1365هـ/ 1946م. ودرس فيها حتى المرحلة الثانوية في المعهد العلمي بعنيزة وتخرج عام 1385هـ/ 1965م، وانتظم في كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض وتخرج عام 1389هـ/1969م، وهذه جذوره التراثية ثم نالته العصرية لما درس في جامعة إكسترا ونال الدكتوراه عام 1987م.
وتراه لمحبته التراث لا يفتأ يحاول تجديده ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وهو لذلك ربما أسرف في طلب العصرية إسرافًا يستعدي عليه المحافظين من أمثالي، إذ كنت معاندًا له غير مرة.
سمعت بأستاذنا حين كان في الحجاز وقد ذاع صيته، وكان حديث زملائنا في اجتماعاتهم ودعواتهم الاجتماعية يعرضون لأفكاره، وكان منهم الراضون عليه ومنهم الساخطون.
وفي ليلة في مدينة المذنب كان زواج لشاب من أسرة الغذامي، وفي تلك الليلة لقيت عبدالله الغذامي وجلسنا مع الناس على الأرض في الشارع، وكان نقاش حول مشكلات الموظفين والتزامهم عملهم، وكيف أنّ منهم من يضطر لمغادرة موقع عمله لإخراج أبنائه من المدرسة، وكان من رأي الأستاذ أنّ على الموظف الالتزام بالبقاء في مكانه، وأما التوصيل فعليه أن يتدبر أمره بما لا يخل بواجب العمل، وهو كلام سليم واضح ولكن تنفيذه صعب قد لا يتيسر لكل أحد.
وانتقل أستاذنا إلى قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود ليثري القسم بعلمه وعمله وسعدت بمشاركته بعض اللجان.
كان الدكتور عبدالله الغذامي من ألطف الناس وأحسن من عرفت تقديرًا لغيره، عرفت ذلك فيه حين كلف قراءة رسالة زميلنا الدكتور فهد سنبل الذي طلب الانتقال إلى القسم، وحين سألته عن الرسالة امتدحها، وقال إنه سيكتب عنها تقريرًا مرضيًا. ولما بدأت كتابة مداخلاتي في المجلة الثقافية من صحيفة الجزيرة تبين لي أنه من الحريصين على قراءتها، قال لي ذلك وحثني أن أنشرها ما اجتمع قدر صالح منها، وربما هاتفني للثناء على مداخلة أعجبه موضوعها وفي الغالب لأن فيه نزوعًا تحديثيًّا يلائم عصريته، ومثال ذلك (شخبط شخابيط)(1) التي جاء في مطلعها «تضم لهجاتنا طائفة من الألفاظ المعبّرة عن دقائق في الاستعمال، قد لا نجدها مدوّنة في معاجمنا التراثية: إما لقصور في الجمع، وإما لحداثة في وضع اللفظ وضعًا جديدًا، وإما لأخذ لفظ من أصل من الأصول ولكن بشيء من التغيّر في لفظه وربما دلالته، وهذه الألفاظ وإن لم نجدها في المعاجم هي عربية الجذور والأبنية، وما وافق قول العرب القدماء في طريقته هو من قول العرب؛ إذ اللهجة مستوى من مستويات العربية، وإنْ وجب التوقف في بعض تراكيب العامية النحوية وطرائق تنغيمها ومجافاة بعض أصواتها لطريقة اللغة الفصيحة فإنّه لا توقف في الألفاظ المعجمية؛ لأنها تنتزع من سياقاتها ولا تستعمل إن أريد استعمالها في فصيح إلاّ مفصّحة».
وأستاذنا سمْح لا يغضبه من يعانده، أذكر أني كتبت عنه مخالفًا لأقواله إذ ألقى محاضرة في مؤتمر مسقط ونشرتها المجلة الثقافية في عددها 388، وكتبت عن هذه المحاضرة خمس مداخلات(2) بعنوان (الطباق الثقافي) وهو عنوان مقتبس من عنوان محاضرته، جاء في مقدمة المداخلة الأولى: وما فهمته من هذا هو أنّ ثمة ظاهرتين متقابلتين إحداهما اللغة المزدهرة في إنتاجها، والأخرى ظاهرة النحو الذي يأخذ أصحابه على الناس ضعف لغتهم ويلاحقونهم بالتصحيح، يقول أستاذنا «ولا مخرج لحل مشكلة النحو عند جمهرة العرب المعاصرين ما لم نتمكن من إقناعهم أولًا بأن النحو ضرورة لغوية لهم، وأولها أن نثبت لهم أن الناس لن يفهموا منهم قولهم إلا بالشرط النحوي، وأن النحو هو العقد الدلالي بين المرسل والمرسل إليه، فإن غاب غاب معه فهم الرسالة، وهذا مطلب يبدو أنه غير واقعي لأن الناس ظلت تنتج اللغة العربية الفصحى العصرية إرسالًا واستقبالًا، وإفهامًا وفهمًا، دون وسيط نحوي، وبالتالي عم الشعور (غير المصرح به) بأن النحو ليس شرطًا للفهم والإفهام. مما يفقده وظيفته في الشعور العام». فلما لقيته في القسم لقيت المبتسم الضاحك المتندر على (الطباق).
وكتبت مرة «أنا من تلامذتك المعجبين بك ناقدًا متميزًا لك حضورك الشفاهي والكتابي المؤثران؛ وإعجابي بك (لا يجب أن يمنعني من التوقف في بعض ما تقول)، فكيف تفهم مقصدي من جملتي؟ الجواز أم الوجوب؟ قد تقول الوجوب وأن المعنى الذي يفهمه كلانا (يجب أن لا يمنعني من التوقف) وأقول هذا مجرد احتمال، وترى كيف أعيدت الجملة إلى ترتيبها الصحيح بوضع حرف النفي أمام الفعل المراد نفيه، فليس مقبولًا إذن أن ننفي فعلًا ونحن نريد نفي غيره»، وكان هذا في مقدمة مداخلة (إلى أستاذنا الغذامي)(3) حول مقاله (في فهم مصطلح الفصيح أو سوء فهمه)(4).
ولا أنسى حسن تقديره والثناء على مبادرة (أم أوس)، رحمها الله، حين كتب إعلامي عن تقصير صحافة الكويت في ذكرى الغزو؛ إذ كالت المدح للدول الأجنبية وأ نسوا ذكر المملكة التي احتضنت الكويتيين وأسكنتم في مدارسها وعمارات الإسكان التي كانت مخصصة للمواطنين، واستقبلت جيوش العالم وجعلت أرضها مقرًا لإدارة تحرير الكويت، وشارك جيشها بذلك وتعرضت البلاد لوابل من صواريخ العدو، واجتياح مدينة من مدنها، ساء أم أوس إهمال صحافة بلدها، فسافرت فورًا لتقابل وزير الإعلام ولتشرح له الخطأ الذي صار، فكان أن شكل لجنة وفدت إلى المملكة وعولج الأمر خير علاج، كان هذا الأمر من الأمور التي أعجبت أستاذنا وعبر عن إعجابه أمامي.
وآخر أمر أذكره لأستاذنا النبيل أني كتبت إليه رسالة في الوثاب أخبره بأنا نكتب كتابًا عن المرحومة أم أوس فلعله يشارك، فما هي إلا لحظات حتى وافاني بكتابته التي أخذت مكانها في الكتاب.
وقد أحسنت الجزيرة الثقافية ورئيس تحريرها أستاذنا الدكتور محمد الفيصل بتخصيص ملف تعيد فيه تكريم أستاذنا الدكتور عبد الله الغذامي حفظه الله.
**__**__**__**
(1) نشر في المجلة الثقافية- صحيفة الجزيرة، في الخميس 17 رجب 1433هـ/ 07 يونيو 2012م. ع367.
(2) أعيد نشرها في كتابي شهادات ومتابعات، ص 199.
(3) نشر في المجلة الثقافية، صحيفة الجزيرة السبت 5 ربيع الآخر 1439ه/ 23 ديسمبر /2017م. ع16522.
(4)نشر في المجلة الثقافية، صحيفة الجزيرة/ الرياض، ع 16515 في 16/12/2017م.