سهام القحطاني
الحديث عن أستاذنا الغذامي هو حديث يشعرني بالمتعة والسعادة، و عندما أكتب عنه أجد الأفكار تتدفق بعذوبة ؛فقد تربينا ثقافيا على فكره، وله أثر في تشكيل الشخصية الثقافية السعودية سواء من ينتمي لمعسكر مؤيديه أو معسكر معارضيه، فالاختلاف أو الخلاف مع الغذامي يمنح لصاحبه قيمة فكرية مضافة، وهذه معادلة صعبة فأنت لا تتأثر بمن تختلف معه أو تخالفه، لكن في حالة الغذامي فأنت مع اختلافك أوخلافك مع رؤيته تتأثر بفكره،فالغذامي يملك طاقة جذب قوية، هذه الطاقة التي تجعله دوما في دائرة الضوء، وجدلية بلا أطراف، تمنح فكره الحضور المتألق الذي لا يُفارق دائرة الضوء ،في حين أن جيله يسيرون في ظل الأشجار العالية.
وأعود إلى سؤال المبتدأ لماذا يظل الغذامي متصدرًا دائرة الضوء منذ كتابه «الخطيئة والتكفير» وحتى اليوم؟، ولاشك أن لهذه الصدارة أسبابًا كثيرة سأذكر القليل و الموجز منها مراعاة لمساحة المقال.
*تأثيره بلا جغرافية؛ تفكير الغذامي و رؤيته الثقافية شكّلت فكر الأجيال الثقافية منذ ظهوره حتى اليوم،ولم يقتصر تأثير فكره على المثقف السعودي بل تجاوزه إلى المثقف العربي،وهذه حقيقة التأثير، فمؤشر على أن تكون مؤثرا ،أن تؤثر في غيرك عن بعد، فالفكر الحقيقي لا جغرافية له. وقد أثبت الغذامي أنه خارج أي حصرية صلاحية لزمن ثقافي أو فكري.
لقد كان الغذامي الرائد بالتمثيل في ترسيم مصطلح «المشهور» قبل وجوده التداولي على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو وصف لم يكن يحظى به إلا أهل الفن ،لكن الغذامي انتزعه بمهارة منهم، بفضل تأثيره ودائرة الجدل التي كانت تدور حوله.
كما كسر النسق الثقافي في مسألة «النجم» الذي كان مقصورا على أهل الفن، فأصبح بتأثيره مفكرًا بصفة «نجم» وهو قلما يحدث، وقد حدث بسبب جاذبية تأثير الغذامي الفكرية والجدلية التي أحاطت به من معارضيه، و الكاريزما الأسلوبية الشفهية والكتابية التي يمتلكها و الذكاء اللغوي و الثقافي في اختيار تطبيقاته وطريقة تقديمها للجمهور.
*تجنبه العمى الثقافي: من يتتبع السيرة الفكرية للغذامي سيجد أنه يملك القدرة والشجاعة على إحداث مراجعات لفكره، وفي هذا الأمر قد يتهمه بعضهم بتغير الجلد أو مواكبة التيار الغالب، وهذا غير صحيح في كليته ففكر المرء ليس مقدسا فالمفكر الحقيقي هو الذي كلما نضج فكره توسعت رؤيته وبالتالي أصبح معرفة ما يُفسد تلك الرؤية أو ما قد يٌقصر من صلاحيتها الزمنية و تعديله أو تحسينه علامة من علامات الثقة الفكرية و المرونة الفكرية، و حماية الذات المفكرة من الوقوع في العمى الثقافي,
* لا لعباءة القالب: الجمود علامة من علامات الموت الثقافي لأي مثقف أو مفكر، وهو؛ أقصد الجمود ليس معادلا لمبدأ الثبات أوالأصالة كما قد يظن بعضهم.
إن ما يميّز الغذامي عن جيله من النقّاد، ديناميكية التجديد المستمر لإطاره الفكري هذا التجديد الذي بلاشك لم يضرّ بأصالة فكره، إنما فتح له زوايا مختلفة من الرؤية والتطبيق، فانتقاله من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي وانتقاله من تحليل الظاهرة الأدبية إلى تحليل الظاهرة الثقافية وانتقاله من درجة النخبوي إلى درجة الشعبويّ، نقلات ثقافية وفكرية أكسبت فكر الغذامي حيوية الاندماج مع الآخر الشعبوي.
فلم يقع الغذامي في فتنة نجاح المنجز الأول كتاب الخطيئة والتكفير، وجعله محور حياته الفكرية كما نجد عند أدونيس والجابري اللذين ظلا أسيرين لمنجزهما الأول فوقعا في العمى الثقافي،بل اعتبره مرحلة في تاريخ إنجازاته.
كما أن النظرية لم تسطع أن تُهيمن على فكر الغذامي بل هو الذي هيمن عليها فطوعها لتطبيقاته، فالنظرية هي وسيلة فهم وليست غاية في ذاتها أو كما يقول الغذامي: «قيمة النظرية من حيث كونها تفاعلية، تتجدد مع كل حالة تحدّ لها، وشرطها أن تعطي تفسيرا جديدا للظاهرة»-
مآلات الفلسفة- و هذا الفرق بين الفكر والفلسفة القدرة على خلق نماذج التطبيق أو اكتشافها، وقد أبدع الغذامي في الخلق والاكتشاف ولذا ظلّ متربعا في دائرة الضوء.
*الأسلوبية الغذامية: وهذه الأسلوبية أو الكاريزما الأسلوبية للغذامي التي تشدّ إليه الجميع ومصدر تأثيره، وسرها هي حيوية تحليل الغذامي القائم على التجديد المستمر لنماذج التطبيق أو ما يمكن أن أسميها فكرنّة الظاهرة،كيف تتحول الظاهرة في أنواعها المختلفة إلى ثقافة فكرية وسلوكية لها خصائصها وممثلاتها وجمهورها، وهذا المسار هو الذي يضمن له حيوية طرحه مهما كانت نظرية مصدر التطبيق قديمة.
ما يميّز الغذامي عن جيله وجعله متصدرا دائرة الضوء حتى اليوم ،ذكاؤه في تسويق فكره الثقافي إعلاميّا، وتحقق هذا الأمر من خلال التجديد المستمر لتطبيقاته التي غالبا ما تعتمد على مستجدات المجتمع المحلي والعربي والعالمي والحركة الثقافية والاجتماعية للإنسان ومواقفه وردة فعله نحو مستجدات الأحداث والتقنية، وهذه «التزامنية» هي التي حافظت على كاريزما الضوء التي تحيط به.