عهود عبدالكريم القرشي
لطالما اعتبرت الخوف عائقاً، نصل يُهدد عنق الحياة الممتعة، ويتوعد حرية الكتابة. الخوف والنجاح أعداء وبينهما حروب ممتدة، معارك نفسية، وعمليات تعسفية. ومابين الخوف من الكتابة، والكتابة نفسها كــ(عمل تحريضي) أخذني د.عبد الله الغذامي في سلسلة من التساؤلات.
حين يُغريك أو يغويك قلمك للكتابة عن د.الغذامي أو إحدى كتبه، فعليك أولاً إقامة صلاة استسقاء طلباً للشجاعة، ثم الاعتكاف في محراب فكرهِ زمناً من الكتب، والتي بالمناسبة يعرضها بشكلٍ مجاني في موقعه لمن أراد عليها اطلاعاً واستحال إليها وصولاً ورقياً. بعد ذلك تبقى مدّة على سُنة البحث حتى تجد الكتاب المناسب للكتابة عنه، تدعو الله أن وفقتَ في الاختيار والاختبار. عليك بعدها أن تُغمض عينيك عما تعرفه عن علم وشخص الغذامي (نظرية السراج) كي تواتيك الجرأة للكتابة، وتتناسى خوفك من سؤالهم: من صاحب الاسم الجديد هذا الذي يكتب عن الغذامي؟! استعن بأفكارك وامزج حابل اللغة بنابل العاطفة، واكتب.
لطالما أعجبتني الكتابة عن الكتابة نفسها، فكيف بي أجد كتاباً عنونه د.الغذامي بـ»الكتابة ضد الكتابة» الصادر عن دار الآداب عام 1991م، والذي تناول فيه فكرة ثلاثية النقد، فبعد أن نقد نصوص ثلاثة شعراء، ونقدوا هم نقده، نقد نقدهم ناقدٌ آخر، لقد استوقفني الفصل الأول من الكتاب، حيث خطَّ له د.الغذامي عنواناً يعبّر عن حالة الكتاب أجمين «بين يدي النص» فصلٌ غازل فيه الغذامي الكتابة وكشف عن مفاتنها.
ثم ما لبثُ أن زارني الخوف والتردد في الكتابة عن كتابة الغذامي، فما وجدت إذ قرأت كتاب «السردية المستحيلة» الصادر عن المركز الثقافي العربي عام 2020م، إلا سبراً لغور خوفي، وتشريحاً لمعاني ترددي، حيث جاء الفصل الثالث من الكتاب بعنوان (صناعة الخوف) ليفتح لي طريقاً لعله ممهداً للكتابة! يبدوالحال وكأنني قطفت من حديقة فِكر د.الغذامي ما طاب لي من ريحان المعرفة، وزهر الأسئلة، وعطر الأجوبة، ثم جمعتها حرفاً أسكبه في قنينة هذا المقال.
هل الفكرة بحد ذاتها مخيفة؟ أجدها مخلوقاً سحرياً، يفرض تواجده دون مراعاة للظروف، لا يخضع لمزاج الكاتب، ولا يرضى بسهولة عن شكله في قالب الكتابة، وقد يرحل سريعاً إن لم تقبض الكلمة عليه. الفكرة بدافعها ومعناها وجدوى فائدتها من يتحكم فيها؟ يقول د.الغذامي إن (كل أمر لا تشهد عليه الحواس الخمس أو تتمكن من احتوائه في حدودها الواضحة يظل مادة باعثة للخوف) أجد الفكرة قبل كتابتها مادة باعثة للخوف، وقد يستمر الخوف منها لحين ترجمتها على الورق. الفكرة كمادة باعثة للخوف توقظك من نومك، تحبسك في سيارتك ريثما تكتبها على هاتفك، تسرق انتباهك في اجتماع مهم وتلح عليك حتى تستأذن كاذباً هارباً غرضك الصادق التعامل بأمان مع «زن» الفكرة وتخويفها لك بالضياع منك.
ما المخيف في مسألة الفكرة وترجمتها؟ تحويلها من مجرد فراشة فرحة ملونة جميلة في الذهن إلى سطرٍ حالمٍ في كتابٍ أسود وأبيض؟ وماذا عن الأفكار القبيحة السيئة الخبيثة الغارقة في ظلمات الشر، هل كتابتها يمنحها نوراً فتُرى وحياة كريمة على الورق وطريقاً للوصول إلى الآخر؟ هل يخاف الكاتب من أفكاره الشيطانية فيخبئها عن الملأ؟ وإن لم تكن الفكرة مخيفة فلماذا نتردد في الكتابة؟ يُحيلنا د.الغذامي أنا والفكرة إلى مجازات التوجس حيث (تعلم الإنسان مع الزمن أن يترجم مخاوفه إلى صيغ ثقافية وهي حيلة للتغطية على العجز وتملك الخوف لقلبه…) تنتابني الحيرة!
لا تطول حيرتي لأن الإجابة موجودة في دفاتر د.الغذامي بقوله إن (أهم مكتشفات الإنسان هي تلك التي تتعامل مع الخوف) والكتابة أحدها بل أهمها. الخوف دافع للكتابة، المعاناة والخوف منها دافع للكتابة، الخوف من فقدان اللحظة الجميلة دافع عاطفي للكتابة. كنت أقول
إن القلق هو دافع الكتابة الحقيقي. أليس القلق ابن الخوف أو ربما حفيده النشط؟
بعدما ينزاح الخوف من الفكرة ذاتها ويتم التعامل معها صهراً للحروف، وتشكيلاً للكلمات، وتسوية للنص، تتبختر الكتابة ككائن حي جديد وتأتي شاهداً على وجود الفكرة وجهد الكاتب فيكون (المنتصر الوحيد هنا هو الكتابة، فهي الباقي بعد أن يفنى الكاتب الفاعل ويتغير القارىء المنفعل) كما يُصرح د.الغذامي.
الآن تبدو لي الفكرة في عليائها ساخرة مني، حيث انتصرت وأثبتت قوتها على كل سطر أكتبه ويكتبه غيري. إذا فالفكرة أم الكتابة، وأحياناً تُخيف الأم ابنتها. أما التعبير فوالد الفكرة الذي يختار لها قالباً تُصاغ فيه.
ولكن الخوف لا ينتهي! يتشكل في مسألة أكبر من ذات الكاتب. حيث يكون النص (أكبر من صاحبه وأقوى وأخطر، ويتحول الكاتب من فرد عادي إلى نموذج ثقافي يتسم بصفات وجودية وصور ذهنية وهيئات تخييلية تتجدد فيه وتتولد له مع تقلب حيوات النص). كأن قدر الكاتب أن يبقى رهيناً بين خوفين، الخوف من ضياع الفكرة، والخوف من نصه الذي يؤطره في صورة ثقافية اجتماعية قد لا تشبهه. العاشق المتفاهم الطيب الجسور الذي يدافع عن حبه ليلاً ونهاراً في النص المكتوب، كاتبه رجل خائفُ نهاراً جبانٌ ليلاً متردد طوال الوقت. والكاتبة التي سطرت الشجاعة في روايتها، وجعلت بطلة الحكاية نموذجاً «نسوياً» لا يشق له غبار، هي في الواقع امرأة تُحب بيتها وزوجها وأبناءها. هل مزجتُ الصورة النمطية عن نص الكاتب بمتناقضات النفس التي لا يخلو كاتبٌ منها؟ ربما فعلت!
يأخذ د.الغذامي بيدي حيث يفك تشابك الأفكار والأسئلة وهو بين يدي النص في كتابه «الكتابة ضد الآخر» ويقول: (الكتابة تقدم الاختلاف وتعرض الضد: الذات المختلفة في النص المختلف. ومن هنا ينشأ العمل المضاد بما هو اختلاف عن الأصل وعن الشبيه، فالمؤلف ليس هو الشخص ذاته، والنص كتابة جديدة لا تشبه ما عداها، ولذا فهي الضد).
استمر في طرح الأسئلة، أقف برهة أتأمل قول د.الغذامي الفريد ثم أسقطه على ذاتي حينما قال: (إن الذات وهي تكتب إنما تفعل ذلك لكي تدلّ على كل ما هو مفقود منها…) قولٌ يُلائم الكتابة العاطفية حيث تُكتب المشاعر التي نفتقدها، نتمناها، نحلم بها، نرجو من القلب حدوثها في أسرع وصلٍ ممكن، لهذا يتهم كتاب الروايات أنهم أبطالها، ويُرمى الشعراء بأنهم عاشوا قصص الحب في طيات قصائدهم، ولكن أليست الفكرة حاضرة مع الذات الكاتبة بل قبلها؟ الفكرة ليست مفقودة موجودة قبل النص، المعلومة أيضاً موجودة، التفسير المنطقي موجود في ذهن الناقد والمحلل والفيلسوف قبل الكتابة، فكيف حينما تكتب الذات إنما تعبر عما هو مفقود منها؟
يُجيبني د.الغذامي بأن (الكتابة تتضاد مع الذات من خلال كونها عملاً انتقائياً يصطفي من الفعل ومن الذاكرة، أي من الذات، أجمل ما فيها أو أقبح ما فيها، المهم أنه ينتقي منها أشياء، وهو انتقاء لا يتم إلا بإلغاء أشياء أخر. وربما تكون الملغاة أهم من المصطفى أوأدلّ منه على الذات…) وما الكتابة إلا سطوة الفكرة وقوة حضورها الذي يمكنها من «فلترة» ذاكرة الكاتب، ودفعه لانتقاء الكلمات والأحداث والمعلومات والذكريات كي يعبر عنها، أي الفكرة، كما تشاء هي. ويبقى السؤال: إلى أي مدى تتحكم الفكرة بالكاتب؟
أخيراً، خبز الكتابة تُنضجه نيران الأسئلة، وأنا وإن خفت أن يحرقني جمر التساؤل في وليمة الغذامي، إلا أنني حاولت مراقصة السطور، ومراودة الأفكار عن نفسها كي تكشف لنا جمالها. لست كما أجدادي الذين خافوا من المجهول، ها أنا ذا كما علمني د.الغذامي أخاف من المعلوم. وما بين علامة الاستفهام، والكلمة الفصل للنقطة تأتي حقيقة أن الخوف هزيمة والكتابة انتصار، ثم ألم يقل د.الغذامي (منجزك هويتك)؟