د. شاهر النهاري
وهذا مجال نقدي مستحدث، ويعد الناقد الأمريكي: فانسان ليتش (Leitch.Vincent.B) من أوائل المهتمين بذلك الجانب من النقد الثقافي منذ ثمانينيات القرن العشرين، بدأها بكتابه (النقد والطابو: النقد الأدبي والقيم) (1987م)، حيث بلور منهجية جديدة سماها النقد الثقافي مستوحيا فلسفة (ما بعد الحداثة)، وتمثل آراء ما بعد الماركسية.
وقد عمل ليتش على دراسة الخطاب في ضوء التاريخ والسوسيولوجيا والسياسة والمؤسساتية ومناهج النقد الأدبي، معتمدا على منهجيات جديدة في التعامل مع النصوص والخطابات ليس من الوجهة الجمالية ذات البعد المؤسساتي، بل من خلال رؤية ثقافية شعبية تستكشف ما هو غير مؤسساتي وما هو غير جمالي.
ونحن اليوم بصدد كتاب إشكالات النقد الثقافي، الصادر 2023م، عن المركز الثقافي العربي- المغرب، للكاتب عبدالله بن محمد الغذامي من مواليد عام 1946 في عنيزة، وهو أكاديمي وناقد أدبي وثقافي سعودي، وأستاذ النقد والنظرية في قسم اللغة العربية، كلية الآداب، بجامعة الملك سعود بالرياض.
وقد سبق للغذامي نشر كتابه الأول «النقد الثقافي» سنة 2000م، والذي استدعي بأصدائه الكثير من الحوارات والمناقشات العربية الثقافية من الكتاب والنقاد السعوديين والعرب، وما زال، وبمواجهات تكبر وتمتدح، وربما تنتقص وتنتقد، من مثقفي دول المغرب العربي، ومصر والعراق، نظرا لحساسية وتمكن وأقدمية النقد الثقافي في تلك البلدان.
ومعرفة كل ذلك عن الكاتب، يجعل أي ناقد يفكر مرات عديدة قبل إطلاق أي أحكام أو أفكار نقدية قد يسارع إليها، من مجرد تصفح الكتاب.
والكتاب يأتي في 144 صفحة، على شكل دليل «manual» تمكن الكاتب من رص محتوياته التشريحية التركيبية، بشكل مختصر، وبتعريفات وافية، وشروح ليست بالطويلة، طارحا من خلاله جل صور مشكلات النقد الثقافي، وبما تحتاجه من أمثلة تلامس الحياة الشعبية والثقافية، ما يجعل الكتاب مرشحا لأن يُدَرَسُ لطلبة الكليات الأدبية، للتعرف على تلك النقاط الجوهرية، ومعرفة المقصود بالنقد الثقافي، وإلى أين يأخذ الناقد، ويمكن تعريف النقد الثقافي بأنه: مقاربة متعددة الاختصاصات تبنى على التاريخ وتستكشف الأنساق والأنظمة الثقافية المختلفة، وتجعل النص أو الخطاب وسيلة أو أداة لفهم المكونات الثقافية المضمرة في اللاوعي اللغوي والأدبي والجمالي والشعبي، وتلك تعد من أهم الظواهر الأدبية التي رافقت ما بعد الحداثة في مجال الأدب والنقد، والتي تأثر بها مثقفو السعودية حينها، وتمكنوا من البروز في مضمارها عربيا.
وفي النقد الأدبي يتم دراسة الأعمال الأدبية من نواحي البنيوية والتكوين والبيئة المحيطة، والكشف عما فيها من جوانب قوة أو ضعف أو جمال أو قبح قبل إصدار الحكم الأدبي الفني النقدي عليها، ما يجعل مجالات النقد واسعة وعميقة، وموصلة لجزئيات معاني الثقافة، وبكل المؤثرات فيها من شخوص وبيئة وثقافات أصيلة أو متردية أو مستوردة.
وقد ذكر الغذامي في كلمة الشكر في كتابه الجديد، بأن هذا الكتاب كان ناتجا جميلا لفترة وعزلة كورونا، التي حبست الأجسام، ولكنها على ما يبدو لم تتمكن من حبس فيروسات تلاقح الأفكار.
وفي الفصل الأول «إشكالات النقد الثقافي» أعطى عناوين وتفصيلات وشروحا للمعاني الهامة، التي يعتمد عليها الكتاب، فكانت الفقرات:
- أسئلة النقد الثقافي، والانسداد المعرفي.
- الجملة الثقافية «تاريخيا».
- الجملة الثقافية استنباطا.
- الوعي والنسق عند «ابن خلدون»
- نسق الشعرنة «الشعر».
- النقد الثقافي أو الدراسات الثقافية.
- المجاز الكلي والشعرنة.
أما في الفصل الثاني «العقلنة (نسقية الإزاحة والإحلال) فتحدث عن:
- العقلنة بوصفها نسقا ثقافيا.
- العقل بوصفه الأنا، وهل العقلنة فعل نسقي؟
- التفلسف على التفلسف.
- آلية التفلسف.
- الحيل المنهجية «قلب لمعادلة الجاذبية وتعليلها»
- السؤال اللكيع، والذي طرحه الفيلسوف راسل، عن جدوى وأخلاقية قيام البشر بقتل ملايين الفيروسات بالتداوي، من مرض بسيط.
في الفصل الثالث، ناقش:
- التورية الثقافية.
- العدالة بين المفهوم والإقصاء.
- تهشم مصطلح الفردانية.
- التفاوضية الثقافية.
وفي الفصل الرابع «استكشاف الفضاء».
- المجد أو السلطة.
- الأصل الأسطوري للحبكة.
- العلم الضار.
- الحرية السالبة.
- المحاماة.
- الرياضة.
- استكشاف أم غزو؟
- جاذبية الأرض، أم جاذبية النسق؟
- الوثبة العملاقة «أرمسترونج والقمر».
- الدهشات الثقافية «دهشة سقراط، دهشة كولمبوس، دهشة أرمسترونج»
الفصل الخامس «الهويات الضائعة»
- العدالة الضائعة «في جمهورية افلاطون».
- الهوية المختطفة.
- سؤال، ما يربى وما لا يربى «في التربية».
- أن يربي المرء نفسه.
- الاسم والهوية.
- النسوية «المصطلح الموشوم»
الفصل السادس:
- المكان العيني.
- والمكان الذهني.
- الوجود العيني، والذهني، واللفظي، والكتابي.
- الطلل والوشم عند طرفة ابن العبد.
- الطلل / العش.
- المكان/ الجسد.
- المكان الذهني.
والكتاب ممتع، يتجول بين الثقافات والمعاني، فلا تكاد تعرف له خصوصية إقليمية ضيقة، حيث إنه ينتقل بين الثقافات الإغريقية بفلسفاتها القديمة، وكذلك العربية بعاداتها وتقاليدها، وما وصلنا من الجاهلية، وصولا إلى البدوية الصحراوية، مع بعض الوقفات في الحضارة الحالية، عربيا، وأمريكيا منذ غزو «كريستوفر كولومبوس» للقارة الأمريكية، وحتى غزو الأمريكان للقمر، ما يجعله مستساغا بعدم الانغلاق على حضارة بعينها.
الاشكالات في النقد الثقافي، وحسب رؤيتي الخاصة، تعتبر تأطير لرؤية الناقد الثقافي، وتجعله أسيرا بين الحدود والشبوك القديمة والمستحدثة، يحاول فهمها، وفك أقفال بواباتها، وتفسير أسباب قيام المبدع باختيار كلمة عن كلمة، وإشارة عن إشارة، وهذا حقيقة ما لا يحتاجه الكاتب الإبداعي، والذي بموهبته وإبداعه وحريته يسطر نصوصا عاشرها وفرزها، ووجد فيها ما في عينه وقلبه وذاكرته من الجميل والقبيح، وهذا على عكس عين الناقد، التي تستخدم حفارات وطائرات التمعن، يريد بها إعادة تصنيف زوايا العمل الثقافي، وفصفصة أجزائه، والإشارة إلى ما أثر في أسلوب المبدع، وما صنع حالته النفسية، ومفاهيمه، وحسب ظروفه المعيشية، والوسط الثقافي المحيط، ومساحات الحرية، ورؤيته المستقبلية، وقدرته على التعايش أو نبذ القيود الفكرية والمجتمعية والتاريخية والدينية والسلطوية.
الكاتب الأصيل هو من يجد ثقافته تتكلم صراحة في ثنايا نصوصه بلغة حميمة، وصور تفهم بعمقها وشواردها في محيطه، ومن يجد المعاني المطروحة دالة على زوايا ثقافته، ومعتقده، وحياته المعيشية، ومدى عاطفته وراحته أو شقائه، وارتباطه بالأرض والمجتمع والبيئة وما تحتويه من كائنات، ونقمته على بعض الغموض والعسر وتأثيرات الموجودات والميتافيزيقا، وكيف يستطيع بلورة كل ذلك دون تكلف يفسد للإبداع قضية، ودون جعل القارئ للعمل الأدبي أو حتى للعمل الإبداعي الفني، يشعر بنفس مشاعر وأنفاس المنشئ سمو في الإبداع وقدرة في التوصيل والتقمص ووضع النفس محل طموحات بوحه.
المبدع المثقف الأصيل ينطلق من وحي جوفه، ولا يحسب حسابا للناقد إلا بعد أن تنتهي عمليات إنشاء العمل، فتكون نقاط انطلاقه وبلوغه حرة لا خشية فيها من نقد مستقبلي حين يتناول ما حوله بكل مشاعره، وروحه الحرة التي تبقى خالدة، مهما قام النقاد بتأطيرها، وتعريتها، ومحاولات تسخيفها، وكما صور لنا ذلك الشاعر الفذ المتنبي بثقة تتعدى الغرور باليقين، مصورا حالة المبدع المثقف، حينما لا يعود يفكر ولا يخشى وقع سيوف النقد على أعماله، ولا يخاف ممن سيبحثون فيها عن إشكالات النقد الأدبي:
سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسنا
بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ
أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي
وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكي
حَتّى أَتَتهُ يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
كتاب يضم للمكتبة العربية، بكل ترحيب، واحترام.