عبدالرحمن الحبيب
يقول هيجادورن (دبلوماسي أمريكي متقاعد): «يمكنك العيش بدون سيارة كهربائية، ويمكنك العيش بدون هاتف محمول، لكنك لن تعيش بدون المزارعين والأغذية التي ينتجونها». لذا علينا في كل مكان في العالم أن ننتبه لسخطهم. فرغم أن الإنتاج الزراعي يمثّل نسبة ضئيلة من الاقتصاد القومي في الدول المتطورة قلما يتجاوز 4 % وينظر إليه باعتباره نشاطاً تجارياً صغيراً يمكن تجاوز أزماته من الناحية الاقتصادية، لكن لا يمكن العيش بدون الإنتاج الزراعي.
من الهند إلى أمريكا مروراً بأوروبا، يخرج المزارعون إلى الشوارع للاحتجاج على السياسات الزراعية؛ حيث تنتشر الجرارات الزراعية في شوارع نيودلهي باريس وروما وبروكسل والعديد من المدن والبلدات الأخرى في جميع أنحاء أوروبا هذا الشتاء؛ وتندلع المظاهرات، حيث يقوم المزارعون إما بإقامة حصار على الطرق، أو إلقاء السماد في المدن، أو رمي المباني الحكومية بالبيض.
على سبيل المثال سبق أن قاد المزارعون جراراتهم للاحتجاج على خطة الحكومة الهولندية لتقليص الانبعاثات من المزارع وخفضها بشكل حاد عن طريق خفض عدد الماشية في البلاد إلى النصف. وشكل المزارعون حزبًا سياسيًا جديدًا حصل على الدعم الكافي ليصبح جزءًا من الحكومة. أما في الهند فيشعر المزارعون الهنود بالغضب جراء القوانين الزراعية الجديدة التي ترافقت مع الثورة الخضراء هناك، ويتركزون في البنجاب، وحسب رويترز يخططون لدخول العاصمة نيودلهي بالحافلات والقطارات وزيادة أعدادهم عند النقاط الحدودية التي تغلقها الجرارات. وسبق قبل ثلاث سنوات أن سار آلاف المزارعين نحو نيودلهي في مشاهد حاشدة، وقد أشار البعض إلى احتجاجهم باعتباره أكبر تعبئة من نوعها في تاريخ البشرية، رغم أنه في ذلك مبالغة واضحة.
تختلف أسباب استياء المزارعين حول العالم إلا أنه يبدو أن القوانين الصارمة لحماية البيئة والمناخ التي تزيد التكاليف وتخفض الإنتاج وسياسات التجارة هي من الأسباب المشتركة لهذه الاحتجاجات. وإذا كان المزارعون لديهم تاريخ طويل من السخط إلا أنه زاد مع تفاقم ارتفاع التكاليف، وزيادة البيروقراطية، واللوائح الجديدة للاتحاد الأوروبي في السياسة الخضراء، والواردات التي تضعف أسواقهم.
تقول إحدى لافتات الاحتجاج الفرنسية: «من يزرع البؤس يحصد الغضب».. فرنسا لديها الاحتجاجات الأكبر والأكثر استمرارية وأيضاً الأكثر طرافة فمن سد الطرق السريعة بالجرارات الزراعية إلى رمي الطين أو البيض أو الطماطم على مباني الحكومة أو مسؤوليها، وإلقاء السماد البقري في شوارع المدن؛ وكأنهم يقولون هذه منتجاتنا خذوها ... ...
علاقة فرنسا مع الغذاء لها طابع مميز تجمع بين السياسة والغذاء (الزراعة)، ففي سياق بلد حسب عبارة شارل ديغول، «من شبه المستحيل حكم أي بلد ينتج 258 قطعة من الجبن». وللتأكيد على العلاقة بين السياسة والطعام، هناك نادٍ عالمي تأسس في فرنسا عام 1977 يسمى «نادي الطهاة لرؤساء الدول» (Les Chefs des Chefs)، وهي تجمع حصري للغاية للطهاة الشخصيين لقادة الدول، وشعارهم هو «إذا كانت السياسة تفرق بين الناس، فإن المائدة اللذيذة تجمعهم معًا».. وفي عام 2013، شارك النادي في مبادرة القضاء على الجوع الذي أطلقه الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون.
يرى كريستوفر باريت، خبير الاقتصاد الزراعي أن الاضطرابات المستمرة تأتي في الوقت الذي يشعر فيه المزارعون في العالم «بشكل متزايد بأنهم يتعرضون لهجوم سياسي». الحالة الأوربية هي الأكثر وضوحاً، إذ يحث المزارعون في جميع أنحاء أوروبا مسؤولي الاتحاد الأوروبي على التعامل مع مخاوف المزارعين بشأن الأسعار والقواعد البيروقراطية التي تحد من قدرتهم على إنتاج الغذاء والازدهار. ردا على ذلك، تتخذ مفوضية الاتحاد الأوروبي إجراءات لوقف اللوائح الجديدة المعنية بالبيئة والقواعد التنظيمية الزراعية الخضراء الجديدة، وهي جزء من ما يسمى إستراتيجية الاتحاد الأوروبي من المزرعة إلى الشوكة للتعامل مع تغير المناخ، والتي كانت ستلزم المزارعين بإجراءات مناخية صارمة لخفض الانبعاثات الكربونية والنيتروجينية والميثان، وخفض استخدامهم للمبيدات الحشرية إلى النصف بحلول عام 2030 .
في عام 1967، نشر عالم الاجتماع الفرنسي هنري ميندراس La Fin des paysans ما ترجمته «القروي المتلاشي» أو «نهاية القرويين»، وكانت حجة الكتاب متمردة بقدر ما كانت قوية. فبعد عمل ميداني دقيق وجمع بيانات لأكثر من عقد، خلص مندراس إلى أن «الحضارة التقليدية» في فرنسا، والتي يجسدها القرويون، كانت في طريقها إلى الزوال؛ وأن الفوائد الاقتصادية التي حققتها خطة مارشال والسوق المشتركة في فترة ما بعد الحرب، جنباً إلى جنب مع العديد من التطورات العلمية والتكنولوجية التي تتراوح من الميكنة إلى الأسمدة، لم تكن سبباً في تحويل طبيعة الزراعة فحسب، بل وأيضاً الحضارة الريفية التي تأسست عليها. وأعلن مندراس أن فرنسا كانت تشهد «المعركة الأخيرة للمجتمع الصناعي ضد آخر رقعة من المجتمع التقليدي».
الأسباب عديدة وعميقة لاحتجاجات المزارعين حول العالم، التطور التكنولوجي وسياسة المناخ والتجارة الدولية ستعمل حتما على تحويل الزراعة العالمية عما نعرفه واعتدنا عليه.