عبدالوهاب الفايز
في الأسابيع الأخيرة شهدنا تطوراً نوعياً لرفع كفاءة الإدارة العامة في مجالات حيوية لاقتصادنا واستقرار بلادنا. فقد وافق مجلس الوزراء على إنشاء (برنامج دعم الإدارات القانونية)، والذي يهدف إلى دعم الإدارات القانونية في الأجهزة الحكومية وتطويرها. كما أقرّ الإطار الوطني (المحدث) لتنظيم إدارات الحوكمة والمخاطر والالتزام والمراجعة الداخلية في الأجهزة الحكومية. وسيكون هذا مشروعاً جديداً وكبيراً، كما يُتوقع.
وثمة تطور نوعي مفرح وهو ما تحدث عنه وزير المالية محمد الجدعان في اللقاء مع عمر الجريسي، حيث تحدث عن الحوكمة والضوابط والآليات المتشددة لمراقبة الدين العام وربطه بالجوانب والمسارات الإنتاجية في الاقتصاد الوطني.
وهذه الأمور النوعية العميقة تستحق وقفات طويلة للتأمل والتحليل، وهذا المسار سوف يُوسع ويُعمق العمل المُؤسسي في الأجهزة الحكومية ويحمي أدبيات وقواعد الإدارة العامة من تقلبات وتبدلات القيادات، ويُحيّد ويُحوكم (المساحة الفردية) التي تستجيب لطبيعة النفس البشرية النزاعة لرغبة مركزية الإدارة والقرار والسيطرة. وهذه النقلات النوعية تذكّرنا بما قاله سابقاً سمو ولي العهد، حفظه الله، حول التوجه الجاد إلى تخفيف الإجراءات البيروقراطية الطويلة، وتوسيع دائرة الخدمات الإلكترونية، واعتماد الشفافية والمحاسبة الفورية، والأهم أنه قال لنا: (نلتزم أمامكم أن نكون من أفضل دول العالم في الأداء الحكومي الفعَّال لخدمة المواطنين، ومعًا سنكمل بناء بلادنا لتكون كما نتمناها جميعًا، مزدهرة قوية، تقوم على سواعد أبنائها وبناتها).
التوجه لدعم وتطوير الإدارات القانونية في الأجهزة الحكومية خطوة ضرورية حتى يكون الأداء الحكومي مستوعباً للنقلة الكبيرة في بلادنا، بالذات في جوانب التشريع والتنظيم الواسعة التي تتطلبها مصالح بلادنا العليا وتحتاج لها برامج الرؤية ومبادراتها. الأجهزة الحكومية ولسنوات طويلة ظلّت ضعيفة في جوانب الحوكمة والمراجعة، وضعيفة في الجوانب القانونية. واتضح هذا في مشروع التحول الكبير، وأول من لمس هذا الضعف هم العاملون في أجهزة التشريع السيادية، مجلس الشورى وهيئة الخبراء. فالقرارات والأنظمة تتأخر في المداولات والمراجعات لأنها ترفع غير مكتملة، وأحياناً تأتي فاقدة للمتطلبات القانونية الأولية. ونتيجة لهذا الضعف ترفع الأنظمة بدون لوائح تنفيذية، وهناك من يرى أن هذا خلل هيكلي في منظومة التشريع السعودية!
والقيادات في القطاع العام، هم أكثر من يعاني في هذا الجانب لأن التأخير أو النقص ينعكس على سرعة وجودة الأداء. لذا ومن رحم هذا التحدي.. سوف يقدم لنا التوجه لتطوير الإدارات القانونية عدة فرص: الفرصة الذهبية لتطوير المهنة، ومعها تنمية الموارد البشرية، بالذات سوف يخدم العاملين في الإدارات القانونية الحكومية، وكذلك ويستثمر خريجو أقسام القانون في جامعاتنا، والذين يجدون صعوبة في سوق العمل.
والأهم سيكون بيدنا فرصة للعودة لإحياء تجاربنا الناجحة في التعليم والتدريب. لدينا تجربة وطنية ناجحة نفذها معهد الإدارة العامة قبل عقود عندما أدخل دبلوماً عالياً متخصصاً في القانون، وأثمر هذا البرنامج في تخريج جيل من القانونيين السعوديين الذين نهضوا بالأداء القانوني الحكومي. ولذا لن نجد صعوبة في توفير الهيئة التعليمية لهذا البرنامج فلدينا عدد كبير من القانونيين السعوديين المتقاعدين الذين درسوا في هذا الدبلوم، فهؤلاء ثروة وطنية معرفية، فمع تأهيلهم القانوني العالي جمعوا الخبرة في الأداء الحكومي. مثل هذا البرنامج سوف يؤدي إلى دمج الأجيال ويتيح فرصة (التربية القانونية) للموظفين وتعليمهم بروتوكول صناعة الأنظمة وتفهم روحها ومعرفة خصوصية وفلسفة عملية بناء القوانين في بلادنا.
ولعل هذا البرنامج يُدعم بإنشاء (مركز أبحاث وصنع سياسات) قانوني سعودي يكون نواة لشركة استشارات ودراسات كبرى تعمل على إثراء مدخلات صناعة القرارات الوطنية حتى نقلص للأبد الاعتماد الشركات الاستشارية الأجنبية، وأيضاً تؤصل الرحلة والتجربة الصعبة في بلادنا لتطوير الأنظمة والقوانين، وتعمل على تدوين مساهمات الرواد من أصحاب الفضيلة الفقهاء ومن القانونيين الكبار الذين وضعوا القواعد والأصول القانونية التي انبثقت من الشريعة الإسلامية، ومن أدبيات الحكم، ومن خصوصيات المجتمع السعودي. (هذا حلم نضعه بين يدي سمو ولي العهد وهو خير من يعرف أهمية هذا الأمر، فالأحلام الكبيرة توضع بين يدي الكبار).
أماّ الأمر الآخر الذي أقرّه مجلس الوزراء فهو الإطار الوطني (المحدث) لتنظيم إدارات الحوكمة والمخاطر والالتزام والمراجعة الداخلية. هذه الأمور إذا تم فرضها وتمكينها ضمن أُسس ومبادئ الإدارة العامة في المملكة، سوف تترك أثرها النوعي الذي سوف يكرس أموراً حيوية مثل: تعزيز الشفافية ومحاربة الفساد، وتقريب اعداد السياسات والصلاحيات. وهذه سوف تنعكس على جودة الأداء وتساهم في رفع كفاءة الإنفاق الحكومي. غياب السياسات المتقاربة فتح المجال للأجهزة الحكومية، بالذات الجديدة، إلى إنفاق مبالغ طائلة على بناء لوائح وسياسة وإجراءات جديدة.. وقد تكون هذه موجودة في أجهزة حكومية قائمة!
وهذا الوضع فتح المجال للتوسع في طلب خدمات شركات الاستشارات الإدارية، وأيضاً أدى إلى تأخر بناء الكيانات الجديدة بحجة وضع السياسات والصلاحيات والإجراءات. (كأننا نريد إعادة اختراع العجلة!).
توحيد السياسات وضبط أمور الحوكمة والمراجعة، أيضاً يؤدي إلى تقليل فجوة التوقعات وتقليل مساحة الخلاف في وجهة النظر بين الأجهزة الحكومية مما يسرّع في الأداء الحكومي وهذا مستهدف رئيسي لتطوير عمل الحكومة كما يتطلع إليه سمو ولي العهد.
وفي هذا السياق لرفع أداء الجهاز الحكومي يأتي ما أشار إليه وزير المالية حول حوكمة الدين العام. والحقيقة ليس لدينا ما يقلقنا الآن حول وضع الدين العام والذي يبلغ حوالي 1024 مليار ريال، أي ما يعادل 24.8 % من الناتج المحلي الإجمالي، فهذه نسبه معقولة، ويمكن السيطرة عليها، والحمد لله بلادنا محمية من (مصيدة الدين) بحكم حجم ثرواتنا الطبيعية وبحكم ضخامة البنية الأساسية، والأهم: لدى قياداتها الحكمة والشجاعة للتدخل السريع لحماية الدولة ومصالح الناس من التبعات السياسية لمخاطر الديون.
وطبيعي أن تبقى المخاوف من محاذير التوسع في الاستدانة في إطار (القلق الموضوعي)، وهو حق مشروع لكل مواطن يخاف على بلاده، وهو أيضاً خوف يدخل في إطار ضرورات تحليل المخاطر. ومن المبررات الفنية الموضوعية للقلق والتي تفرض حضورها منشأها أمران. الأول يعود إلى حجم التمويل طويل المدى الذي تتطلبه المشاريع الكبرى، فهذه عادة تحتاج لسنوات طويلة حتى تحقق العائد على الاستثمار، وعادة المشاريع الكبرى يكون مسار تنفيذها معرضاً للمخاطر الفنية والمشاكل المالية والإدارية والخلل الأخلاقي، ومعرضة لتقلبات الظواهر البيئية.
الأمر الثاني، وهذا شهدناه في العقود الماضية، وهو اضطررنا إلى خفض النفقات الحكومية لاستيعاب مخاطر الديون، وغالباً كان يتم الخفض في بنود التشغيل والصيانة ومشاريع البنية الأساسية، وربما يتم تقليص الإنفاق على أمور سيادية وحساسة للاستقرار الاجتماعي. وهذا التقليص - كما تعودنا وعرفنا - يؤدي إلى مراكمة المشاكل وترحيل الملفات. ووزير المالية أشار إلى هذه المحاذير وكان صريحاً في الحديث حولها، ولهذا يتم التوجه القوي إلى حوكمة أمور الدين العام وربطه بالاحتياجات الأساسية للدولة. وهذا مطمئن إذا أخذنا في الحسبان مخاطر التقلبات والظروف الدولية السياسية والاقتصادية التي قد تترك أثرها على الاقتصاد العالمي، وبالتالي تؤثر على معدلات أسعار الطاقة. وأمامنا سنوات طويلة لتنويع القاعدة الاقتصادية.
الحمد لله أن أغلب ما في أيدينا وأغلب ما يأتينا: يُفرح ويُسعد.