د. سامي بن عبدالله الدبيخي
تمثل الازدحامات المرورية «قضية مستعصية» في بعض المدن، و»حرجة» في أخرى، و»سياسة نقل» متعمدة في أغلب مدن العالم المتقدم ومنها المدن الكندية.
لاحظت في أكثر من مناسبة أن البعض يلجأ إلى الإشارة أن الازدحامات المرورية «قدر محتوم» وعلينا التعايش معه ويغيب عليه أن قضية الازدحامات لا تحدث إلا في المدن التي اختزلت المشكلة في استيعاب حركة السيارات دون أن تكلف نفسها عناء التفكير بذكاء لتطرح السؤال المناسب «كيف نعيد صياغة مخطط منظومة النقل بحيث نيسِّر الوصولية للسكان؟»
وللدلالة على ذلك يكفي الإشارة لحالة العاصمة الكورية سيول وعدد سكانها (25) مليوناً، أي ثلاثة أضعاف الرياض، ومع ذلك يستغرق زمن الرحلة للتنقل فيها أقل من (50) دقيقة. أما العاصمة لندن فيستهدف مخططها لعام 2041 رفع نسبة الرحلات فيها مشياً وبالدراجات الهوائية والنقل العام إلى (80%). هذه عينة لأفضل الممارسات للمدن التي تجنبت الوقوع في فخ السؤال الخطأ: «كيف نخفف الازدحامات المرورية؟» والذي مؤداه اختزال المشكلة في مجرد زيادة حارات الطرق لاستيعاب المزيد من المركبات.
خلصت في بحثي بمرحلة الدكتوراه عن مدينتي «فانكوفر» والعاصمة «أوتاوا» بكندا أن الازدحامات المرورية هي نتاج «سياسة نقل» وأنه من الخطأ التفكير في تخفيفها من خلال المغالاة في تشييد المزيد من الطرق والتقتير على النقل العام، وإنما من خلال التفكير بسياسة نقل متوازنة وتقديم منظومة حلول متكاملة ومستدامة.
وهذا بالضبط ما قامت به مدينة الرياض في عهد أميرها ورئيس هيئة تطويرها آنذاك، الملك سلمان -حفظه الله- حيث وضع للرياض رؤية عمرانية ودعمها بشبكة نقل عام متكاملة، وسيتضح للجميع مساهمته في خطة التوسع والتحول الاقتصادي والسكاني للمدينة عند تشغيل كامل الشبكة.
عوداً على المدن الكندية وأن الازدحامات المرورية هي نتاج سياسة نقل، شد انتباهي منذ يومين تشكيل فريق عمل لمدينة تورينتو مهمته الأساسية النظر في بدائل لتخفيف الازدحامات المرورية وتخليص المدينة من هيمنة السيارة وإعادتها لخدمة الإنسان. وإذ بهم يشكلونه بعضوية أحد المختصين بالنقل العام من «جمعية النقل العام الحضري الكندية» CUTA وقد كنت عضواً فيها وأعي عمقها المهني وطريقة تفكيرها ومدى إيمان جميع أعضائها بمساهمة النقل العام في تخفيف الازدحامات المرورية من خلال إعادة صياغة مخطط منظومة النقل لتيسير الوصولية accessibility للسكان، وليس فقط تسهيل التنقل بالسيارات mobility مما يغيب الخيارات الأخرى عن المشهد ويعيدنا دائماً للمربع الأول، والنتيجة تفاقم وضع الاختناقات المرورية مع مرور الأيام. مدينة تورينتو إحدى المدن الكندية المشابهة لمدينة الرياض من حيث القدرة على تملك السيارة وانخفاض الكثافة السكانية. وإجمالاً فإن نموذج الرياض يحاكي أنماط التنمية العمرانية في أمريكا الشمالية وليس أوروبا الغربية وآسيا. وقد تفوقت هيئة النقل العام في تورينتو TTC على نظرائها في كل معيار من معايير الكفاءة (من استرداد التكلفة إلى حصة السوق) والمدينة مستمرة في صد سيطرة السيارات، والعامل الحاسم في نجاح النقل العام هو سلوك حوالي 85% من السكان البعيدين عن المحطات واستخدامهم لباصات التغذية الفرعية والتي تعمل امتداداً لنظام الأنفاق وتربطه بكافة أرجاء المدينة.
ولتغطية انخفاض الإشغال بالحافلات وتغطية الخسارة هناك إعانة مالية بين الوسائط cross-subsidy حيث لا يمكن الفصل بين أداء القطارات والحافلات.. ولم تأتِ هذه الشبكة المتكاملة بالصدفة بل بتخطيط للنقل العام منسجماً مع البيئة العمرانية وفلسفة التشغيل.