خالد بن عبدالرحمن الذييب
تعد فكرة الكثافات العالية من أهم الأفكار التخطيطية التي يؤيدها المخططون وصانعو القرار في المدن من حيث إنها تخدم فكرة زيادة الاحتكاك بين السكان، وأن زيادة المقاهي والمطاعم والأنشطة التجارية الأخرى وسط مجموعة من الأبراج السكنية تساهم في الإكثار من اللقاءات والتعارف بين السكان، وبالتالي زيادة العلاقات بينهم. إلا أن هذه الفكرة تحتاج إلى إعادة نظر. لدي قناعة أن كثرة الالتقاء مع نفس الأشخاص تساعد على زيادة معرفتهم أكثر من خلال تنوع المواضيع، ومن ذلك تتكون العلاقات. ففي بداية دراستي في ملبورن سكنتُ في حي من الأحياء البعيدة عن وسط المدينة، والمتميز بالفلل الصغيرة ذات الدورين على الأكثر، ومركز حي يوجد به كافة الأنشطة اليومية (مطعم، كوفي شوب) وغيرهما من الأنشطة اليومية. هذا التجمع للأنشطة بعددها المحدود ساعدني كثيراً على الاحتكاك بالناس وزيادة محصولي اللغوي في تلك الفترة، فقد كان التجمعات شبه اليومية من ساكني الحارة عاملاً مساعداً لزيادة قوة العلاقات بيننا، ففي اليوم الأول كان التعارف، بينما في الأيام التالية كنا نلتقي ونتجاذب أطراف الحديث حول أمور أخرى حسب ما يقتضي الحال، وبالتالي زاد المحصول اللغوي وزادت العلاقات مع أهل الحي.
بينما عندما انتقلت لوسط المدينة التجاري CBD والذي كان يجمع كل الأنشطة المتوقعة بالإضافة إلى الأبراج العالية، فبدلاً من المقهى الواحد تجد عشريناً، وربما أكثر وما ينطبق عليه ينطبق على المطاعم وكافة الأنشطة الأخرى، كما أن الـ CBD كان قبلة سكان ملبورن جميعاً من كافة الأعراق التي تسكنها، ويعتبر «تخطيطياً» نموذجاً يدّرس ويحتذى به من ناحية تعدد الأنشطة وتنوع وسائل المواصلات، فهو مناسب من الناحية التخطيطية والاقتصادية والبيئية، ولكن اجتماعياً فهو لا يفي بالغرض.
فتنوع الأنشطة وكثرة الناس لا تترك مجالاً لبناء علاقات اجتماعية مع أحد، فإن لم يكن معك صديق ستمضي حياتك وحيداً وسط الجموع، فقد كنت في كل يوم أمر بأشخاص جدد مع إني كنت أذهب نفس الأماكن، وكانت الحوارات لا تتجاوز حوارات أول يوم في المنطقة السابقة، لاني كنت ألتقي بأشخاص مختلفين كل يوم لأول مرة.
ما أريد أن أصل إليه هو أن الاندفاع خلف بعض المفاهيم التخطيطية قد لا يكون إيجابياً ما لم تكن هناك تجربة واقعية لهذا المفهوم، فالتنظير وحده لا يكفي.
أخيراً ...
زيادة الكثافات...
إيجابي اقتصادياً، وكذلك بيئياً حسب التعامل معه، أما اجتماعياً ففيها نظر.
ما بعد أخيراً..
في CBD المدن إن لم تكن محباً للوحدة.. فستكون وحيداً وسط الجموع..