د. إبراهيم بن جلال فضلون
يبدو أن الصهيونية العالمية، والعالم الغربي العجوز، الفكر الأمريكي المُغيب عن واقعه، بسبب حماقات مدللتهم الدولة الإسرائيلية، فدائمًا نُطلق على من ينسى شيئاً فور حدوثه بأن لديه (ذاكرة سمكة)، هكذا الرئيس الأمريكي، وهفواته، بل وزلات لسانه، التي تتسبب ذاكرته الضعيفة في إزاحته بالتعديل الـ25، ومطالبة الجمهوريين بعزله، إضافة لضعف سياسته مع هفوات إسرائيل، وحماقات الصهيونية في رؤساء وقادة إسرائيل، فالسمكة تأكل الطعم من السنارة وقد تفلت منها ولكنها تعود مرة ثانية، لتُكرر إسرائيل مرارة هزيمتها دون أن تتعلم الهروب من السنارة، فهُم لا يتعظون بماضيهم، وفي المقابل (ذاكرة الفيل) - وربما الجمل أيضًا - كونها ذاكرة طويلة الأمد تتعلق بالذهن ولا يمكن نسيانها بسهولة، فقد يضربه مدربه مرة فلا ينسى ويتذكر كونه يُخزن كالجمل غيظه، كأهل أرض الحق الفلسطينيين، فتضربهم آلات وألسن العالم الجاحد للبشرية، ولا ينسون أفعال شياطين الأرض فيهم، ففي كل مرة تتكرر المحاولات، ليقذفوهم من أعلى للأرض بلا كرامة، لأن ذاكرتهم احتفظت بما جرى ولم تسقط منها أحداث وقعت لها، لذا قال العرب المتمرس بتربية وحياة الإبل في صحرائها، فهم عشاق (سفن الصحراء).
إنهم موهوبون بالفطرة العالية كحفظ الشعر عن ظهر قلب أو الدواوين دون تدوين أي شيء منها حتى ظهرت الكتابة، وبالتالي يكون البشر صنفين، أحدهما يملك ذاكرة السمكة كالغرب ومن والاهم، والثاني يملك ذاكرة الفيل أو الجمل كالعرب لاسيما المهضوم والمسلوب حقوقهم كالفلسطينيين، لديه ذاكرة عميقة تحتفظ بالأحداث سنين عددًا وتختار الوقت المناسب للرد الرادع، وتلك (المسافة صفر) التي أذهلت العالم، وأرعدت العدو المحتل، إذ لا يزال الهدف النهائي لإسرائيل في غزة غير معروف، كونهُ مُقترناً بنهج مكافحة التمرد بالقتال حتى مرحلة دخول رفح دون أية حسابات والنية لوجود طويل الأمد في غزة وقد قالها نتنياهو الذي من مصلحته إطالة أمد الحرب، في الـ30 من يناير الماضي «لن تنتهي الحرب قبل أن تحقق إسرائيل جميع أهدافها، ولن نطلق سراح آلاف الإرهابيين»، معلناً المتطلبات الأساسية للسلام بين إسرائيل والفلسطينيين ثلاثة أهداف هُم «ضرورة تدمير حماس، ونزع السلاح من غزة، واستئصال التطرف من المجتمع الفلسطيني»، ويوافقه وزير الدفاع الإسرائيلي غالانت: «أن حملة الجيش الإسرائيلي باقية طالما أنها تعتبر ضرورية». وقال هرتسي هاليفي، رئيس أركان الجيش الإسرائيلي: «إن الحرب في غزة ستستمر لأشهر عدة»، وكأن جميع قادة إسرائيل قد فقدوا ذاكرتهم من دروس الماضي وهزائمهم المتكررة على يد الفلسطينيين، لينفد صبر بعض أعضاء القيادة العسكرية الإسرائيلية بسبب غياب هدف سياسي نهائي متماسك.
مما يُحتم على الفلسطينيين انتهاج إستراتيجية «الموت البطيء»، واستنزاف قوات الجيش الإسرائيلي تدريجياً، ولعل الذاكرة التاريخية للحرب الأمريكية في العالم دليل بالتجربة في أفغانستان التي انتصرت فيها سياسة النفس الطويل لحركة طالبان على مدار عقدين من الزمن، لتنسحب الولايات المتحدة بخيبة العار، وانسحاب إسرائيل من جنوب لبنان عام 2005، وفي غزة، سيكون السكان المدنيون هم مركز الثقل في هذا النوع من القتال، لكن وبعد أضرم جنود الاحتلال النار في المنازل المهجورة في غزة، فلا يمكنها «الفوز بالقلوب والعقول الفلسطينية»، مما يُحولُ النصر التكتيكي بهزيمة إستراتيجية متكررة لتكون كافة القوات الإسرائيلية هدفاً مغرياً لهجمات الشعب الفلسطيني كافة، فلا نهاية تلوح في الأفق إذا تبنت إسرائيل إستراتيجية اشتباك طويلة الأمد حتى ولو كان بدعم أوربي أمريكي.
ولا ننسى أن التقارير تشير إلى أن الفلسطينيين يجمعون صفوفهم في شمال غزة استعداداً لهجوم جديد، فشل في أقل من ثلثي الحالات المدروسة على الجيوش التي تبنت ما أطلقنا عليه نهج «القبضة الحديدية» لمكافحة التمرد، أنهُ أسلوب يرتكز بشكل شبه حصري على قتل المتمردين، لكن إسرائيل غرقت في مأزقها الحالي بسبب الساسة الإسرائيليين بقيادة نتنياهو، وتأخيرهم للقرارات المصيرية التي كانوا متشتتين حولها في أغلب الحالات، رافضين الجهود المبذولة من أجل التوصل إلى أية تسوية تفاوضية مع الفلسطينيين، رغم تزايد الضغوط التي تمارسها إدارة بايدن، لتستمر الخسائر المتزايدة في صفوف الجيش الإسرائيلي وفرض الأمر الواقع بضغوط إضافية على حكومة نتنياهو، لاسيما بعد مقتل 221 جندياً إسرائيلياً في الصراع.
إن صنع السلام مع الأعداء أمر بالغ الصعوبة، لاسيما في الحالة الإسرائيلية الإرهابية، لتبدو غزة في عام 2024 أشبه بلبنان في عام 1982: حرب بلا نهاية وموت بطيء لدولة الاحتلال وإقفال النجم الأمريكي الغربي في العالم بسبب ذاكرة السمكة مقابل الفيل والجمل بذاكرتيهما القويتين.