د. تنيضب الفايدي
كنت منذ الصغر في مدينة ينبع متعلقاً بالمدينة المنورة، وزرتها لأول مرة في صغري وأنا في الصف الثالث الابتدائي، وكان لمبنى المسجد النبوي - لصغر سنّي-هيبة ورهبة، وأكثر من ذلك رهبةً مع خوف شديد من عظم المقام، وكنت أردّد الصلاة والسلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مع من قام بذلك (المزوّر)، وصممت في نفسي على صغر سني أن يحقق الله لي أن أسكن بجوار هذا المبنى (المسجد النبوي)، ثم حفظت الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة (اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد) وكذا (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الصلاة والسلام عليك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، السلام عليك يا من وصفه الله بقوله {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}، السلام عليك وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وعلى أهل بيتك الطيبين الطاهرين، السلام عليك وعلى أزواجك الطاهرات وعلى أصحابك أجمعين، وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وأشهد أنك يا رسول الله قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وعبدت ربك حتى أتاك اليقين، فصلى الله عليك كثيراً أفضل وأطيب وأكمل ما صلى على أحد من الخلق أجمعين. اللهمّ أجز عنّا نبينا أفضل ما جزيت أحداً من النبيين والمرسلين، اللهم آتِه الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته).
وكانت سواري المسجد مكاناً لعدد من العلماء، وكلّ عالم له رهبة، وأشعر بأن هناك هالة حوله، ولست أدري ما مصدرها، وتكثر أحاديثهم في رمضان، أذكر منهم: الشيخ العالم عمر محمد فلاته بجوار المكبرية، والشيخ محمد المختار حول خوخة أبي بكر، والشيخ الشبل قريب من باب الرحمة (باب عاتكة) والعدد حوله قليل جداً، وكثيراً ما أسمعه يقول:
إِذا كُنتَ في نِعمَةٍ فَاِرعَها
فَإِنَّ المَعاصي تُزيلُ النِعَم
وَحافِظ عَلَيها بِتَقوى الإِلَهِ
فَإِنَّ الإِلَهَ سَريعُ النِّقَم
وأشهر الحلقات على الإطلاق حلقة الشيخ/ محمد الأمين الجكني الشنقيطي صاحب أضواء البيان في تفسير القرآن الكريم، وكانت الحلقة عصر كلّ يوم من أيام رمضان بين الحصوتين، وكانت حلقته تزدحم بطلاب العلم حيث يعتبر من أكبر الحلقات في المسجد النبوي، والشيخ عبد المحسن العباد في الروضة أمام الشيخ عمر محمد فلاته على يمينه، وأعتقد أن دروسه كانت في التوحيد، و الشيخ عبد الرحمن مضآي ومعه الشيخ محمد سعيد الزلباني لتدريس الميراث، وموقعهما غير بعيد عن موقع الشيخ عبد المحسن العباد، والشيخ أبو بكر الجزائري في التوسعة الأولى، والشيخ محمد صديق يشرح للطلاب في كتاب من عدة كتب في دولاب بجواره بالقرب من باب الملك سعود بالحرم (التوسعة الأولى)، إضافة إلى كثير من العلماء الذين يأتون في المواسم، ولا ننسى أسطوانة ضمن الأسطوانات في الحرم القديم في الوسط يرتكز عليها الشيخ حسن الشاعر رئيس قراء المدينة، وأتأسف كثيراً بأنني لم أجلس أمامه لقراءة القرآن مع أنني كنت أسلّم عليه مراراً من عام 1387هـ حتى قبل وفاته -رحمه الله- عام 1400هـ، وأتذكر أن يده ناعمة جداً كأنها قطن، وكلّ سواري الحرم القديم تقريباً مشغولة بمن يدرس، سواء التوحيد أوالحديث أو الفقه أو غير ذلك، كما أتذكر عالماً كبيراً يأتي من المغرب عليه الزيّ المغربي، إضافة إلى قطيفة خضراء، وكان مكان جلوسه قريباً من الشيخ الشبل، كما شاهدت كلاً من الشيخ المقرئ محمود الحصري والشيخ المقرئ عبد الباسط عبد الصمد كلاهما بالمكبرية يتلوان القرآن على من في الحرم. وما ذكرته سابقاً يمثل بعض العلماء، وهناك من يدرس القرآن وهم كثر، أذكر منهم زميلي في المدرسة الناصرية الشيخ عبد المجيد الآبادي.
وكنت مغرماً وما زلت بالمسجد النبوي الشريف، ولاسيّما الجزء الأمامي أي: توسعة السلطان عبد المجيد العثماني، كما أذكر أن موعدي مع أصحابي دائماً عندما كنا طلاباً يكون عند الساعة (العربية).
من ذكريات ما أجملها وأحلاها ولاسيّما ذكريات مدينة النبي (صلى الله عليه وسلم).