د. عبدالحق عزوزي
من بين الممثلين الأمريكيين الذين برزوا في العقدين الأخيرين، الممثل روبير دونيرو، وهو معروف بكاريزماتيه وذكائه وتقمصه للعديد من الأدوار البطولية الرائدة في عالم هوليود الكبير. سبق وأن شاهدت أحد أفلامه الذي يحمل عنوان The Wizgard of Lies وهذا الفيلم يصور حدثا فريدا يمكن أن نسميه بأكبر عملية نصب تاريخية في دولة ديمقراطية متقدمة تعج بالمراقبات المالية المتنوعة والقوانين الدقيقة، وأعني بذلك الولايات المتحدة الأمريكية. بطل عملية النصب هاته هو السيد برنارد مادوف الذي تم اعتقاله في 11 دجنبر من عام 2008 عن طريق مكتب التحقيقات الفدرالي بناء على بلاغ من ابنيه خوفاً من أن يتابعا هما بنفسيهما إذا قاما بتغطية الحقيقة بعد اكتشافها. وتعتبر عملية النصب تلك التي تدعى بسلسلة بونزي، عملية تم فيها النصب على ما يزيد على 50 مليار دولار وجرت على عقود من الزمن، ولا أعرف في التاريخ البشري أكبر عملية نصب مثل هاته حيث تمت على يد شخص واحد، وكتم احتيالاته حتى عن زوجته ناهيك عن ولديه اللذين كانا يشتغلان عنده. وقد كان ممنوعاً على الولدين الوصول إلى الطابق 17 هذا الطابق الذي كانت تشتغل فيه شياطين الإنس الذين يزورون ويسولون ويملون لكبار أغنياء العالم درب الاغتناء السريع والآمن. وفي الفيلم نرى أناساً يضعون في حسابات برنارد مادوف كل ما يملكون وبملايين الدولارات ليجدوا أنفسهم ذات يوم بدون درهم واحد، ومن هؤلاء من انتحر... برنارد مادوف كان أستاذاً بسيطاً للسباحة قبل أن ينشئ صندوقا للاستثمار بـ 5000 دولار أمريكي. عرف هذا الرجل بذكائه وبعبقريته وبسرعة بديهته إلى أن ثبت رجليه في عالم المال، ووصل به ذكاؤه أن ترأس الناسداك (Nasdak) وهي بورصة القيم التكنولوجية وكان ذلك من سنة 1990 إلى سنة 1991. وبرنارد مادوف هو أيضا من النخبة اليهودية النيويوركية الملهمين بالذكاء المالي أينما حلوا وارتحلوا... وهذا يذكرني لما كنت أحضر دكتورتي في جامعة تولوز بفرنسا وكنت من بين المسؤولين عن أحد المراكز البحثية آنذاك، وكنا في بعض لقاءاتنا نتغدى أو نتعشى في أحد المطاعم في المدينة، وكل مرة يقولون لنا إن صاحب هذا المطعم يهودي إلى أن اكتشفت أن أصحاب كل المطاعم الفخمة في المدينة هم من أصول يهودية...
كيف كان يحتال برنارد مادوف على ضحاياه؟ المسألة بسيطة جداً. كان يأخذ من أموال المستثمرين الجدد ليعطي منها إلى المستثمرين القدامى، وبذلك كان يعطي للجميع انطباع النجاح الدائم والأكيد والسريع، والاستثنائي في عالم مالي يطبعه المجهول واللايقين والغموض... وبناء على ذلك كان هذا المحتال يجذب باستمرار العديد من المستثمرين الجدد، وكان هؤلاء المساكين الجدد يجهلون أن هذا الرجل يقوم بتبذير الأصول التي يقومون بإيداعها عنده، وعندما نشبت أزمة 2008 حاول بعضهم سحب إيداعاتهم وممتلكاتهم ولكن هيهات هيهات.... يكتشف المقربون من برنارد مادوف الفضيحة، يتم التواصل مع السلطات، فيتم الاعتقال والمحاكمات المتتالية ونشاهد خراب بيوتات عن بكرة أبيها، ليتبع ذلك تعجب واستغراب في كل أنحاء العالم.
من يشاهد الفيلم يبقى مبهورا من كثرة الضحايا، ومن تلك الأسماء والأبناك والمؤسسات العريقة التي راحت ضحية شخص واحد، أذكر على سبيل المثال مؤسسة جائزة نوبل إيلي ويسل، السينمائي ستيفن سبيلبرغ، البنك الإسباني (الذي خسر لوحده ما يزيد على ملياري دولار) واللائحة طويلة.
وأتعجب مع زوجتي الدكتورة أسماء العلوي التي كانت تشاهد معي الفيلم وهي التي تدرس قوانين البورصة في الجامعة: أين كانت سلطة تنظيم البورصة الأمريكية؟ صحيح أنها حققت في أعمال برنارد مادوف ثلاث مرات ولكنها كانت كل مرة ترجع بخفي حنين ولو وقع هذا الأمر في أحد بلداننا العربية لاتهمت الدولة مباشرة بالتواطؤ بل ولفرضت عليها عقوبات دولية...
قوانين الجشع والطمع والنفاق والاحتيال واللوبيات وغياب الشفافية والوضوح التي تتفنن بالمناسبة المؤسسات المالية الدولية في فرضها على الدول الفقيرة، هي التي ولدت الأزمة المالية لسنة 2008 وهي التي خلقت رجلاً مثل برنارد مادوف، وهي أيضا التي تخلق تلكم السياسات العجيبة للدول القوية في النظام العالمي وتفرضها بذكاء على بعض الدول.