د.محمد بن عبدالرحمن البشر
تكرَّم علينا أخونا وأستاذنا أحمد شوقي بنبين رئيس الخزانة الملكية بالمغرب، وعالم المخطوطات المميز والمعروف، بعدد من الكتب، وصورة مخطوط قد طلبتها منه، وأرسل تلك الأسفار مع زوج ابنته الذي كان في رحلة إلى الرياض.
أما المخطوط فهو الجزء الثاني من كتاب للبلغيثي اسمه: تشنيف الأسماع، وسبق أن حققت الجزء الأول بمشاركة أخي الدكتور عبدالمجيد خيالي، وهو أيضاً ضليع في التحقيق، ويعمل في الخزانة الملكية تحت إدارة أستاذه بنبين، وأحد تلك الكتب المهداة كتاب بعنوان: الرحلة الحجازية لأبي علي الحسن بن مسعود اليوسي المتوفى عام ألف ومائة واثنين، والكتاب بقلم ابنه محمد، أما من قام بتحقيقه فهو أخي الدكتور عبدالمجيد خيالي، وقد حقق عدداً من الكتب، لا سيما تلك المتعلقة بالرحلات، ومنها رحلة حجازية غير هذه التي بين أيدينا، كتبت عنها عدة مقالات.
ومن المؤسف أنه لم يعد موجوداً من الكتاب غير نسختين أصليتين، إحدى تلك النسخ رديئة، لا تكاد تقرأ، وقد استمتعت حشرة الأرضة، أو إن شئت فقل العثة، بقرض ما حلا لها من ذلك الكتاب القيم، عبر السنين المتوالية، وهذه آفة الكتب، كما أن الرطوبة قد أجهزت على ما بقي، سوى القليل الذي يصعب قراءته، ونسخة أخرى في المكتبة الوطنية بالرباط، أكثر جودة من سابقتها، لكنها تعاني أيضاً من الداء نفسه، لا سيما الرطوبة، كما أن ورقها رديء حتى إن ما كتب على ظهر الصفحة يظهر في الوجه الآخر، فتتداخل الخطوط، وهذا يزيد من عناء المحقق، ومن الغريب أن هذه النسخه تحتوي على دائرة بيضاوية الشكل في وسط الورقة، في بعض الأوراق، وقد رسم في وسطها صليب، وفوق الدائرة صورة لرأس ماعز، كما توجد في جميع الأوراق خطوط مائية متوازية، ويوجد في أول الكتاب، ورقة بيضاء كتب على وجهها العلوي، ثلاث مرات: يا كيكتج، كيكتج، كيكتج، بمعنى يا حافظ، كما كتب في الورقة الموالية بخط كبير، المكتبة الكتانية لمالكها محمد عبد الحي الكتاني بفاس، والمحقق يرى أن الورق أوروبي، لا سيما أن الخطوط المائية المتوازية صفة من صفات الورق الأوربي، والدلالة الأخرى وجود الصليب في قلب بعض الأوراق، أما لماذا الصليب وصورة رأس الماعز، فلم يعلق عليه المحقق، كما أنني لا أعرف سبباً لوجود صورة رأس الماعز، والمكتبة الكتانية حفظت لنا الكثير من الكتب، وأسرة الكتاني أسرة علم، ولعلمائها مريدون حتى يومنا هذا، وقد زودني مشكوراً أخي الأستاذ خالد السباعي من المغرب الشقيق، بعدد من الكتب، ومنها كتب عن التصوف، ألفها الكتاني، وهو له من المريدين والمحبين.
أما مخطوطة الرحلة، فقد جلدت أو سفرت النسخة بتجليدة أو تفسيرة مغربية قديمة، بجلد بني تتوسطه اترنجة مضغوطة، ولا أعلم رمزية وجود تلك الصورة للاترنجة، كما أن المحقق لم يعلق على ذلك، وربما أن هذا ما دأب عليه من قام بالتجليد، حتى لا نبعد في التأويل الذي قد يخرج المتدبر من الواقع إلى الخيال، كما هي الحال في كثير من الأحداث السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية، والتي يكثر فيها التحليل الذي قد يضيع الحقيقة، التى قد تكون أبسط من عمق المحللين.
وهناك أربع ورقات من مخطوطة أخرى زود المحقق بها أستاذنا القدير عبدالهادي التازي -رحمه الله - الذي جمعتني به محبة الكتب، والألفة والود والتقارب النفسي، مع فارق السن فكان جليساً ممتعاً -رحمه الله - صاحب مزاح لا يمل، وهو بحر في العلم والتأليف والتحقيق.
وكل محقق يجد عناءً كبيراً في إحصاء النسخ الموجودة في المكتبات في أنحاء العالم، والكثير منهم يتنقل عبر بلدان لعله يحصل على نسخة إضافية، كما أن المكتبات الخاصة، قد يكون فيها صيداً ثميناً إذا لم يكن صاحبها شحيحاً يبخل على الآخرين بما لديه، ربما تطبيقاً لقانون الندرة، حتى يزيد ثمن ما لديه معنوياً ومالياً، وفي حالات معينه تكون النسخ شحيحة، وأحياناً أخرى تكون متوفرة، كما أن نسخة نظيفة ومكتملة، قد تريح المحقق، ليجعلها نسخة أصلية يطابق عليها ما بقي من نسخ، وربما يواجه المحقق تغير في نمط الكتابة، أي هناك ناسخ كتب بعض الأوراق ثم تلاه آخر، أو آخرون، وهذا يضيف إلى المحقق عناء، فبعد أن كان قد تعود على خط معين، يجد نفسه ملزماً بالتعود على خط آخر، وهذا يحتاج إلى مزيد من الوقت في الورقات الأولى من الخط الجديد، حتى يألف الخط، ومما يواجه المحقق فقد أوراق معينه من النسخ، أو سطور، ولهذا يصعب عليه إكمال السياق، فيترك نقطاً، وهذا بلا شك لا يريح القارئ أو الباحث.
بقي علينا أن نعرف أن هناك محققين يحققون ويشرحون العبارات الغامضة، والمفردات غير المألوفه، كما يوضحون البلدان والشعاب والوديان، ويوردون الشواهد، والأحداث المتعلقه بالموضوع، وهذا مفيد جداً، وفائدته قد تضاهي لدى القارئ النص ذاته، لأنه يبحث عن معلومات أكثر تتعلق بما بين يده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
ويمكننا التنويه أن نعرف -وهذا هو الغاية من المقال - أن المسلم في بداية هذا الشهر الكريم قد يطيب له قراءة بعض الكتب التي قد يتوقف عند بعض العبارات الواردة بها متسائلاً أو مشككاً، لذا فمن المستحسن التأكد من خلال تحقيق آخر لعله يجد به جواباً لما يريبه، فأخطاء المحققين والنساخ أو سهوهم قصداً أو غير قصد وارد.