أ.د. محمد خير محمود البقاعي
وصلت إلى فرنسا في 12-12-1983م للحصول على دكتوراه في النقد الأدبي الحديث، ووجّهني المكتب الثقافي في القنصلية السورية في باريس إلى معهد تعليم اللغة الفرنسية في مدينة صغيرة وسط فرنسا يعرفها قدامى عشاق كرة القدم الفرنسية، مدينة سانت إيتين Saint-Etienne وهي مدينة صغيرةً تقع شرقي وسط فرنسا، تبعد حوالي 60 كلم جنوب غرب مدينة ليون Lyon وهي عاصمة إقليم لوار يكثر فيها المتقاعدون من عمال المناجم، وفيها جامعة كانت تضم معهدا لتعليم اللغة الفرنسية للناطقين بغيرها. كنا في المعهد والسكن الجامعي طلبة من بلاد مختلفة من الجنسين، وكان من بين زملاء السكن الجامعي طالبان من جمهورية مصر العربية كان أقربهم اثنين توثقت صلتي بأحدهما وبقيت سطحية مع الآخر. من توثقت به الصلة اسمه ممدوح مطاوع والآخر «مصباح السيد سالم»، وعرفت أنهما من جامعة الزقازيق درسا الأدب الفرنسي وعينا معيدين وهما في مرحلة استكمال درجة الدكتوراه، وكانا في مسامراتنا يأتيان على ذكر زميل لهم في الجامعة في قسم اللغة العربية وآدابها اسمه حسن البنا عز الدين ويذكران بعضا من شأنهما معه، أثار فضولي حينها هذا الاسم، ولكنني لم أسأل، وظل الاسم في الذاكرة حتى كان لقاؤنا في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود عام 1996م. كنا عزبين تشغلنا أحاديث الكتب في المجالات التي تدخل في نطاق اهتمامنا، وكان يتقن الإنجليزية وبعض الفرنسية وعلمت أنه يسكن بعيدا عن الجامعة في شارع الخزان- حي البطحاء التاريخي فيما يسمى «عمارة الملكة» في شقة صغيرة، وكان الإخوة المصريون يحبون السكنى أفرادا وأسرا في تلك المنطقة لقربها من الأسواق بمختلف أنواعها مأكلا ومشربا وملبسا. وكانت عطلة نهاية الأسبوع مهرجانا من التسوق والتنزه لمن لا يريد الابتعاد ويجد كل مبتغاه في مكان قريب. أما صاحب هذه الشذرات فقد اتخذ له شقة صغيرة من «شقق العزاب» كما كانت تسمى في آخر طريق الملك عبد الله غير بعيد عن الجسر المؤدي إلى حي «عرقة» ويُسمى اليوم «جسر الملك سلمان». كنت أتجاوز الشارع فأجد نفسي على سور الجامعة ويستغرق الوصول إلى مبنى كلية الآداب حينئذ عشر دقائق مشيا في غير اشتداد الهاجرة. وتوثقت أواصر الود والصداقة لتقارب الاهتمامات وتشابه الأحوال، وقضينا العام الدراسي الأول 96-97م/17-18هــ في عمل دؤوب ونقاش مستمر وأنس يفرج بعض الكرب، ناهيك عن لقاء الزملاء من أعضاء هيئة التدريس من أهل البلد ومن جنيات عربية أخرى لجامع يجمع الجميع للتدريس والبحث والإشراف وتصريف أمور اللجان ومجلس القسم. ولما اقترب العام من نهايته ودخلنا صيف عام 1997م. سألني إن كنت أرغب في زيارة مصر التي لم أزرها، فطابت لي الفكرة وما إن جاءت العطلة حتى شددنا الرحال إلى «أم الدنيا» على أن أقيم في شقة صغيرة من شقق الاستئجار الطويل الأجل كما يسمونها في منطقة كانت حينئذ في طور التنظيم، وكان لوالده رحمه الله شقة أخرى يقيم بها هو نفسه. عند وصولنا كان معتادا أن يذهب أولاً إلى حيث تسكن والدته رحمها الله قريبا من إخوته وأخته في قرية اسمها «القلج» إحدى قرى مركز الخانكة التابع لمحافظة القليوبية. تشتهر القلج بزراعة النخيل؛ إذ تحتوي على ما يقرب من ربع النخيل بمصر. كما تشتهر بصناعة عربيات «الكارو» التي تجرها الدواب وتصدرها إلى باقي محافظات مصر الزراعية. أما سبب تسميتها بهذا الاسم فقد جاء في «القاموس الجغرافي للبلاد المصرية» لمحمد رمزي بك: (ج2، ص 39، طبع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1994م):
«دلني البحث على أن هذه القرية كانت تسمى قديما «الزيات» فصلت عن ناحية المرج، وفي تربيع سنة 933هـ قيد زمامها في دفاتر المكلفات باسم القلج نسبة إلى الشيخ قلج الرومي الأدهمي شيخ زاوية السلطان قايتباي بالمرج والزيات المتوفى سنة 891 هـ كما ورد في تاريخ مصر لابن إياس (ص 239 ج 2). وللاحتفاظ بالاسم القديم لهذه القرية وهو الزيات لسهولة الاسترشاد إلى زمامها القديم ضم اسمها في تاريخ سنة 1228هـ إلى اسم القلج وصارت القرية تعرف باسم قلج الزيات، ثم حذفوا الزيات واستقر الأمر على اسمها الحالي وحذف الاسم القديم». ويقال: إنها كانت تسمى «قلقشندة» قضينا يوم وصولنا وسحابة اليوم الثاني في بيت الأسرة، ولذ لنا طهي الوالدة من أطايب الطعام ثم توجهنا إلى القاهرة التي وصل إليها في هذه الأثناء الزوجان ستيتكيفتش ياروسلاف Jaroslav Stetkevych (1929-2021م) وسوزان بنكيني Stetkevych Pinckney Suzanne 1950م. وهما صديقان مقربان من الدكتور حسن الذي تولى ترجمة عدد من مؤلفاتهما وحبر دراسات مهمة عن بعضها. كان اللقاء وديا توثقت بعده الصلات، ومن طرائف لقائنا الأول وما رافقه من حدث دال كل الدلالة في انطلاق عجلة التواصل أن الدكتور ياروسلاف أهداني أحد كتبه التي كانت قد صدرت للتو فتلقيت إهداءه بعبارات الشكر وقلبت صفحة الغلاف فإذا بي أجد في الصفحة الثالثة بيتا من الشعر مترجم إلى الإنجليزية وتحته اسم الشاعر مكتوبا بطريقة «النقحرة» وتعني نقل كلمات لغة بحروف لغة أخرى، فقرأت بصوت مسموع المكتوب حسب عرف نقل الحروف العربية فكان: علي بن الجحم، فتطلع إلي البروفسور شذر مذر وقال بلهجة فيها لحن الاستجهال: علي بن الجهم، شاعر عباسي مشهور، فناولته الكتاب مفتوحا حيث الكتابة دون أن أنبس ببنت شفة فلما أعمل النظر فإذا الاسم مكتوب كما قرأت، فتغيرت ملامح وجهه ولحن كلامه وقال: عجيب مر الكتاب علي غير مرة وقرأه غيري ولم نلحظ هذا الخطأ الطباعي، فهونت عليه الأمر وقلت: « قال الْمُزَنِيّ: قَرَأْت كِتَابَ الرِّسَالَةِ عَلَى الشَّافِعِيِّ ثَمَانِينَ مَرَّةً فَمَا مِنْ مَرَّةٍ إلَّا وَكُنَّا نَقِفُ عَلَى خَطَأ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هِيهِ، أَبَى اللَّهُ أَنْ يَكُونَ كِتَابٌ صَحِيحًا غَيْرَ كِتَابِهِ؛ (البيهقي في كتابه مناقب الشافعي 2/36) فهش وبش، واستمرت بسمة الود على وجهه في كل مرة ألقاه.
كرس البروفسور أبو يوسف، حسن عز الدين كثيرا من وقته وجهده لترجمة ما استطاع من كتب ياروسلاف وقرينته وإنشاء دراسات للتعريف بها ونقدها وكانا يشاركانه في قراءة التراجم والدراسات المترجمة وإبداء المرئيات التي تسمو بالعمل، وما زلت أذكر ترجمته كتاب ياروسلاف المعنون «صبا نجد، شعرية الحنين في النسيب العربي الكلاسيكي» مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، 2003م. وكتابه: الشعر العربي في أعمال ياروسلاف ستيتكيفتش، كرسي الدكتور عبد العزيز المانع، جامعة الملك سعود، 2012م. وغير ذلك. أما الكتاب الذي كنت أتمنى أن يترجمه فهو كتاب «العرب والغصن الذهبي: إعادة بناء الأسطورة العربية». الذي ترجمه المترجم البارع سعيد الغانمي، وذاع صيت الكتاب بين الدارسين بجودة ترجمته والتعاليق والإضافات التي جاء بها المترجم. وقد وصف الكتاب فقال: «العرب والغصن الذهبي، إعادة بناء الأسطورة العربية»، تأليف ياروسلاف ستيتكيفيتش. أوضح المؤلف أن الغرض الأساسي من تأليف الكتاب: أن يغري زملائي العرب والغربيين المهتمين بالأدب بأن يكتشفوا الشبكة الغنية للأسطورة العربية الأصيلة، وأن يضعوا هذا التقليد العربي داخل التقاليد الأوسع الخاصة بالأسطورة في الشرق الأوسط، اليونانية واللاتينية (ص 7-8 المقدمة).
يفتح هذا الكتاب أمام القارئ العربي آفاقا في قراءة تراثه الأدبي. فهو إذ يقرأ قصة ثمود، من خلال ما كتبه عنها الإخباريون والقصاص والمفسرون، فإنه يعيد قراءة تاريخها فيقوم بخطوتين في اتجاهين متعاكسين: خطوة أولى هي ترميم تاريخ ثمود وتخليصه من الأسطورة، وخطوة ثانية هي ترميم أسطورة ثمود وتخليصها من التاريخ
وفي صحيفة «الرياض» مقالة باذخة للدكتور عبد الله إبراهيم (الخميس 26 من ذي الحجة 1426هـ - 26 يناير 2006م – العدد 13730) وفيها أن الكتاب صدر بالإنجليزية عن جامعة إنديانا 1997م. وصدرت الترجمة العربية عام 2005م عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء. وقد ذكر عن المؤلف أن الكتاب تكملة لكتاب «الغصن الذهبي» The Golden Bough لجيمس جورج فريزر James George Frazer الأنثروبولوجي الإسكوتلندي (1854-1944م) الذي لم يأت في كتابه على ذكر العرب وأساطيرهم مع أن الأسطورة السامية بكل تشكلاتها لا تقل تأثيرا في الحياة قبل الإسلام دليل ذلك ما تضمنه القرآن الكريم وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله من إدانة للتفكير الأسطوري المرتبط بالسحر وغيره من الممارسات الوثنية.
نُشرت الطبعة الأولى من كتاب «الغصن الذهبي» في عام 1890، إذ كانت مكوّنة من مجلّدين؛ بينما نُشرت الطبعة الثانية في عام 1900، واحتوت ثلاثة مجلّدات. انتهى العمل على الطبعة الثالثة في عام 1915، إذ تكوّنت من 12 مجلدًا قبل أن يُضاف المجلد الثالث عشر المكمّل في عام 1936.
وإغفال الأساطير العربية إنكار لمرحلة مهمة في تكون العقلية الفكرية لأمة ما وتجاوزها مسار صحيح في تطور الحياة الفكرية، وقد كان المشركون يحاولون نسبة ما يوحى به للنبي صلى الله عليه وسلم إلى «أساطير الأولين» التي وردت في القرآن الكريم تسع مرات مع أن الخروج من الفكر الأسطوري كان بداية مركزية في التمكين للدعوة الربانية. وقد قرأت فصلا جميلا يزخر بالمعلومات وتتزاحم الأفكار هنا عن فصل في كتاب جماعي ترجمته منذ زمن (القمر أساطير وطقوس، كوكبة من المؤلفين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1427هـ/ 2007 م). بقلم المستشرق الفرنسي مكسيم رودونسون Maxime Rodinson (1915-2004م) عنوانه: «القمر عند العرب وفي الإسلام». وقد نقل كاتبه ما رواه الإمام أحمد والترمذي والحاكم «عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيدها فأشار بها إلى القمر فقال: استعيذي بالله من شر هذا فإنه الغاسق إذا وقب» صححه الترمذي والحاكم، ووافقهما الذهبي والألباني. و ليس أدل من هذا على تخليص الفكر من آثار الأساطير التي كانت متمكنة في العقل العربي. كل هذه التداعيات جددها كتاب ياروسلاف الذي كنت بيني وبين نفسي أرجو أن يترجمه أبو يوسف، ولكنني عندما قرأت ترجمة الغانمي وجهده اطمأنّت نفسي إلى وصول الكتاب على النحو المأمول. ومن مستجدات الموضوع التي أتحفنا بها حديثا الصديق الباحث الاجتماعي والأنثروبولوجي المؤرخ الدكتور عبد الرحمن بن عبد الله الشقير الذي ألمعت إليه في هذه الشذرات (2024م)، وصدر عن دار ابن النديم ودار الروافد الثقافية بعنوان: «حضارة منقوشة على حجر، الشعب الثمودي»، وقد اجتمعت في هذا الكتاب المعارف التكاملية التي حصلها أبو عبد الله (علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، التاريخ) مما أعلم عنايته بها ولكنه أضاف إليها مهارة الآثاري الذي يقتفي جوهر الأشياء ويعللها. ولا يتسع المقام لعرض مذاهب القول في الموضوع، وسيكون لذلك مكان أكثر اتساعا بعون الله. وقبل أن أطوي صفحة هذه الوقفة المثرية أشير إلى براعة مترجم كتاب ياروسلاف في اختيار العنوان الأكثر مناسبة للسياق العربي وللواقعية الفكرية التي كرّسها الإسلام؛ فالترجمة الحرفية للعنوان الإنجليزي هي: «محمد والغصن الذهبي» وهو مأخوذ من رواية تناقلتها كتب التفسير والسير عن الطريق إلى غزوة تبوك، وإشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى قبر أبي رغال الشخصية التي حولتها الذاكرة العربة إلى شخصية أسطورية، وأشارت التفاسير والسير إلى العثور على الغصن الذهبي في قبر أبي رغال وطلب النبي (ص) من أصحابه رده إلى القبر وإهالة التراب عليه كما كان ومغادرة المكان. وكل ما روي عنه يدخل في مرتبة الضعف كما قال المحدثون. والعجب أن تميمة الغصن الذهبي مستفيضة في « الإلياذة» و «الأوديسة « كما تشير الدراسات التي تناولت هذه الأساطير. أما زوجة ياروسلاف سوزان فأستاذة الشعر العربي القديم، حصلت على جائزة الملك فيصل العالمية في اللغة العربية والأدب (2022) بالاشتراك مع الباحث العراقي- الأمريكي اللامع محسن جاسم الموسوي وأشهر ما كتبت مما شرق وغرب ويلتقي مع سياق الحديث بحثها «القصيدة العربية وطقوس العبور.. دراسة في البنية النموذجية(1985م)، ج1، مج 60، سورية: مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.
ومن فضائل الرحلة مع الدكتور حسن وفقه الله أننا زرنا البروفسور صلاح فضل (1938-2022م) رحمه الله معا في منزله الواقع في شارع صلاح فضل وعلمت أن العرف جرى في القاهرة بتسمية الشوارع باسم أول ساكنيها فضلا عن كونه من أعلام مصر في الفكر والأدب والنقد رحمه الله، وكان لقاء وديا لم نشعر بمرور الوقت، وكان حينئذ مشرفا على سلسلة دراسات أدبية في المجلس الأعلى للثقافة، حدثته عن كتاب جمعت فيه ما ترجمته في موضوع التناصية والتناص ففرح وعرض علي أن ينشر في سلسلة دراسات أدبية ففرحت للأمر وطلب مني التواصل مع زميلة فاضلة تعمل معه هي الأستاذة حينذاك الدكتورة اللامعة بعد ذلك عفاف عبد المعطي التي رسمت لنفسها مسارا علميا رائعا في الأدب المقارن وتعليم العربية للناطقين بغيرها. استلمت الكتاب واقترحت علي تعديلا في العنوان ليصبح «آفاق التناصية، المفهوم والمنظور» الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب - سلسلة دراسات أدبية 1998 م، وتولت متابعة ترجمتي كتاب «لذة النص» للمفكر والناقد الفرنسي الكبير رولان بارت Roland Barthes (1915-1980م) الذي تقدمت به للمجلس الأعلى للثقافة- المشروع القومي للترجمة وصدر في عام 1998م مصدرا بتقديم أستاذنا القدير الدكتور عبد الله محمد الغذامي، يحفظه الله، ثم صدرت بعدهما ترجمتي كتاب «الرواية في القرن العشرين»، جان-إيف تادييه Jean Yves Tadie (1936-...)، الهيئة العامة للكتاب، مصر، سلسلة دراسات أدبية، 1998م إبان رئاسة الدكتور الناقد والمفكر الدكتور جابر عصفور (1944-2021م) رحمه الله للمجلس (1993-2007م). وجاء في حديث الدكتور صلاح فضل رحمه الله أن المؤتمر الدولي الأول للنقد الأدبي ستنظمه الجمعية المصرية للنقد الأدبي وجامعة عين شمس في المدة بين 20-24 أكتوبر 1997م بعنوان: «النقد الأدبي في منعطف القرن» فأبديت اهتمامي للمشاركة فوجه إليّ لاحقا دعوة للمشاركة وكان المؤتمر يضم حشدا كبير من النقاد العرب من المشرق والمغرب، فضلا عن كبار النقاد المصريين، كان منهم أستاذي الناقد والمترجم والوجه الثقافي والسياسي اللامع البروفسور حسام الخطيب (1932-2022م) رحمه الله الذي كانت رؤيته بعد سنوات مع كوكبة من النقاد العرب فرصة لتجاذب أطراف الحديث عن شؤون الثقافة والفكر، وكانت فرصة لتجديد العهد بأساتذة كبار منهم البروفسور محمد حماسة عبد اللطيف رفاعي (1941-2015م) رحمه الله الذي كنت أستمتع بقراءةسهاماته النقدية المهمة في الدراسات اللغوية وتاريخ النقد العربي، شأنه شأن العلامة اللغوي ذي الفكر الثاقب الممتد من أعماق التراث إلى آخر مستجدات الحداثة وتذكرنا معا قول الإمام الشافعي رحمه الله: «ليس سرور يعدل صحبة الإخوان، ولا غمّ يعدل فراقهم». كنت في رحلتي مع أبي يوسف قد لقيت أستاذين من كبار المترجمين عن اللغة الفرنسية أ. د. منى طلبة وأ. د. أنور مغيث، وكان لنا معهم حديث ماتع عن الترجمة وهما اللذان ترجما معا في عام 2018 م كتاب « في علم الكتابة « للمفكر الفرنسي جاك دريدا (1930-م2004) وصدر عن المركز القومي للترجمة. وزرنا الأستاذ الدكتور محمد السيد سليمان العبد أستاذ العلوم اللغوية في كلية الألسن في جامعة عين شمس، وكان مثال الرصانة العلمية والأنس. لن تنسيني هذه الجولة مع الدكتور حسن مؤلفاته الزاخرة بصنوف الموضوعات المثيرة التي يستخدم فيها أحدث الإجراءات فاعلية ناهيك عن المنهج المستقيم الواضح فقد قرأ الشعر العربي القديم في ضوء نظرية التلقي، وترجم كتاب «الشفاهية والكتابية» لوالتر ج. أونج وصدر في سلسلة عالم المعرفة الكويتية (رقم العدد 182، 1994م) بمراجعة الدكتور محمد عصفور. وآخر ما علمته اهتمامه بدراسة القهوة في التراث العربي.
وكان من زملائنا محبي العلم الباذلين في سبيله وقتهم وجهدهم الأستاذ الدكتور سعيد حسن بحيري أستاذ علم اللغة الذي اكتسب في كتاباته صرامة المدرسة الألمانية ودقتها في التمييز بين المصطلحات، وكان لنا إبان وجوده في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود لقاءات وحوارات مثرية عن اللسانيات وعلم الخطاب، وهي مجالات برع فيها وترك للدارسين مؤلفات مترجمة عن الألمانية فيها بعض صعوبة العلم التي كان يحاول على الدوام تجاوزها سعيا إلى الإفهام في مجال تتداخل فيه العلوم. ولست أنسى الزميل البارع في قراءة التراث قراءة عصرية تجده فيها متمكنا من الجذور متبحرا في العلوم الحديثة إنه الزميل الدكتور السيد إبراهيم محمد الذي كان ناقدا حصيفا وعروضيا بارعا، وشاعرا ذا طبع ناري في الحوار لا يحب المخالفة، أشهر كتبه: الضرورة الشعرية، دراسة أسلوبية، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع; [د.م.]; 1981م. وله أيضا دراسة فريدة بعنوان:
الأسلوبية والظاهرة الشعرية، مركز الحضارة العربية القاهرة 2007 م. أما الزميل الأستاذ الدكتور الناقد والشاعر محيي الدين محسب (1954 - 2020م) رحمه الله فقد كان نمطا علميا وبشريا لا تستطيع إلا أن تعجب بشخصه مظهرا ومخبرا وطيب حديث كان معنا ثم غادرنا ثم عاد مجددا، وهو أستاذ العلوم اللغوية والأسلوب، ومن أشهر أعماله كتاب «علم الدلالة عند العرب: فخرالدين الرازي نموذجا»، دار الكتاب الجديد المتحدة، بنغازي (ليبيا) 2008 م. وعمل في عودته إلى جامعة الملك سعود في كرسي الدكتور عبد العزيز المانع ونشر فيه عدة أعمال رائدة. وإن المتأمل في تركة الدكتور محيي الدين الثقافية يرى أنه رحمه الله كان في سباق مع الزمن للإنجاز واكتساب محبة الناس والابتعاد عن المواجهات غير المجدية. ولن أختم هذه الشذرة دون الإشارة إلى الأستاذ الدكتور محمود أحمد نحلة أستاذ الدراسات اللغوية والنحوية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية أصلا، ثم ظفرنا بزمالته ردحا من الزمن كان خلالها دائم السؤال عن آخر ما كتبت بود وصدق. كان نحويا بارعا ولغويا واسع الاطلاع له جهود كانت موضع درس وتحليل. وما زال في الجامعة زميلان هما أستاذ النحو، المعلم والباحث الأستاذ الدكتور رمضان قسطاوي بأخلاقه العالية وطبعه الحيي، والزميل الأستاذ الدكتور أبو المعاطي رمادي أستاذ النقد والمدير التنفيذي لكرسي الأدب السعودي، صاحب الدراسات النقدية التي تناولت السرديات العربية والسعودية، رجل احترام وأدب ناشط في مجال البحث والتدريس.
كانت مصر منذ الأزل مهوى أفئدة البشر، ومركز الحضارة منذ أن ولد فيها موسى عليه السلام، ومنذ أن سطع نجم يوسف عليه السلام عادلا ونزيها وقادرا على استكناه المستقبل. فيه أبدلت العناية الإلهية مفعول السحر الشيطاني ليستجيب للإرادة الإلهية. يقصدها المبدعون فتفتح صدرها لإبداعهم فنا وأدبا وفكرا تلمسه في مؤسساتها العريقة وتاريخها الثقافي العريق. تلك كانت الرحلة المصرية لمسار رسمه حب الاطلاع ورغبة التزود بما يجعل للحياة الثقافية، والفكرية، والإنسانية معنى ،وقيمة. ولنا لقاء.