سهام القحطاني
هل العرب أصحاب مصطلح؟
يُعرف «هلموت فلبيير» المصطلح بأنه «عبارة عن بناء عقلي فكري مشتق من شيء معين فهو بإيجاز الصورة الذهنية لشيء معين موجود في العالم الخارجي أو الداخلي، ويتم هذا البناء العقلي -المفهوم- في اتصالاتنا ويتم تعيين رمز ليدل عليه».
وهو بذلك يُحدد مراحل صناعة المصطلح، من تحديد المفهوم، ووضع التعريف لهذا المفهوم وتعيين رمز له، وبصورة أبسط يعني الاتفاق حول مفهوم معين ذي خصائص وصفات وحقائق وعلاقات مختلفة، والاتفاق يعطيه صفة الثبوتيّة، وعلامة التميّز.
وفي هذه الدائرة فنحن نقف أمام علامات قد تبدو في ظاهرة وصف «مصطلح خادع» أو قد نظنه معادلاً للمصطلح ومساوياً له في المضمون والقيمة، مثل الدلالة والماهية والتصور والتعريف والمفهوم، وهذه البدائل قد تخدعنا حيناً فنتوهم أنها معادلٌ للمصطلح، وهي غير ذلك، والغيرية لا تتضمن الخطأ بل التدرج حيناً والتفسير حيناً والتأويل حيناً وتفاصيل التكوين حيناً رابعاً.
فالتعريف جزء من المصطلح وليس مساوياً له في الذات أو معادلاً في المعنى، وكذلك الأمر بالنسبة للتصور فهو صيغة تأويلية للمصطلح ولا يحلّ محلة بالتساوي أو المُعادِل، والماهية هي بحث في الكيفية، أو المنهجية كما يقول طه عبدالرحمن، والمفهوم هو وصف فكري في حين أن المصطلح هو وصف لغوي، أما الدلالة التي قد تكون أقرب الشبه إلى المصطلح فهي تُشابه في المعنى ولا تساويه في المبنى.
وأجمل ما قيل في تداخل البدائل السابقة قول عبدالسلام المسدي في تعريف المصطلح «بأنه شاهد على شاهد على غائب»، فالمصطلح غالباً ما يُقدم عبر غيره،؛ فحضور ما يشبه هو مساوٍ له مبنى ومعنى.
فهل وقع العرب قديماً وحديثاً في فخ تلك المعادلات والبدائل للمصطلح واعتبارها مقامات مساوية للمصطلح؟.
إن إشكالية العرب في العجز عن صناعة مصطلح فكري خاص بهم منذ البدء هي الترجمة، فالعرب بعد الفتوحات الإسلامية انفتحوا على ثقافة الأمم المغلوبة بفضل الترجمة، هذا الانفتاح المستقبِل عبر ذاكرة وذائقة بيانية بحتة متعددة الدلالات، ولذلك نجد أن طبيعة اللغة شكّلت العقبة الأولى في بناء مصطلح خاص بالعرب، وأقصد بطبيعة اللغة هنا طبيعة التداول وليس أصل اللغة، فاللغة الشعرية التي تربى عليها الفكر العربي سواء قبل الإسلام أو في ظل الإسلام ظلت غير مناسبة لصناعة المصطلح لاعتمادها على استراتيجية الدلالة المتعددة، وليست آحادية الدلالة كما تقتضي صناعة المصطلح.
ويقول في هذا المقام طه عبدالرحمن «نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية، معلوم أن العربية لغة سامية، وأنها تخلو أصلاً وأصالة من فعل الوجود في تراكيبها؛ ورغم انعدام هذا الفعل حاول فلاسفة الإسلام أن «يعرّبوا» الفكر الوجودي الأرسطي..،مما أفسد معاني الألفاظ المستعملة وأفسد تراكيب الجمل العادية»-سؤال المنهج في أسس التأسيس-
لقد شاع عند علماء اللغة العرب «الاصطلاح» وهو يعني «انتقال مفردة إلى مفردة لوجود قرائن بينهما» وهذه الاستراتيجية البنائية للدلالة ليست بديلة «للمصطلح»؛ لأنها توسع دلالات المعنى، في حين أن المصطلح هو بناء لغوي بالأحادي «لفظ محدد مقيد بمعنى محدد في مجال علمي محدد».
فالمصطلح مرتبط بحقول المعرفة والعلوم،في حين أن الدلالة ترتبط بالأدب والفنون.
وفي العصر الحديث لم يتعلم مثقفو العرب من تجربة أسلافهم في الانجذاب حول المصطلحات المترجمة التي وقفت في طريقهم لصناعة مصطلحات فكرية للعرب، فكرروا للمرة الثانية التجربة لتكون النتيجة ذاتها.
ويحدد مصطفى طاهر الحيادرة في كتابه «إشكاليات المصطلح اللغوي»أسباب غياب صناعة المصطلح عند العرب في العصر الحديث بالآتي: «اختيار مصطلح ملبس لمقابلة المصطلح الأجنبي، تقديم مصطلحات دالة على مفاهيم غربية عن اللغة التي توضع فيها هذه المصطلحات، عدم مراعاة خصائص اللغة التي يؤخذ منها المصطلح، فلكل لغة خصائصها، إن واضع المصطلح العربي المقابل للمصطلح الأجنبي قد يكون خالي الذهن من الواقع الذي نشأ فيه المصطلح الأجنبي».
ولا يعني أن غياب صناعة المصطلح عند العرب أو انجذابهم الدائم نحو المصطلح المترجم، غياب المنهجية في فكر العرب قديماً وحديثاً، فقد كانت لهم منهجيتهم الرائدة في الحقل المعرفي، وإن توكأ كثير منهم على المصطلح الأجنبي.
فالمتأمل في المصطلحات التي وضعها العرب مثل النحو، صناعتها كانت قائمة على القصد اللغوي لا الوصفي، أما استراتيجيتهم في هذه الصناعة الدلالية فهي النقل والاشتقاق.
فهل الطبيعة البيانية للغة العربية هي التي منعت المفكر العربي قديماً وحديثاً من النجاح في صناعة المصطلح؟ أو أن المفكر العربي لا يملك المؤهلات اللازمة لهذه الصناعة واستسهل الترجمة والتعريب والتطبيق، كما فعل أسلافه من الفلاسفة؟ أو أن ارتباطه بتراثه وخاصة الديني يقف عائقاً أمام صناعة المصطلح وهي صناعة فكرية علمانية؟ فلا مقدس تحت قبة المصطلح.