علي حسين (السعلي)
كيف يستطيع المثقف أن يخلق حالة ما ليصنع موقفاً مع أو ضد؛ بمعنى آخر «يتفق ويختلف معاً»؟ هذا السؤال يقودني إلى رمزية الأشياء التي لا يراها ويبصرها عياناً بياناً العامة، لكن المثقف يلتقف النادر أو لنقل يلاحظ أدق تفاصيل التفاصيل!
فنحن نمرّ مثلاً في يومياتنا بالكثير من المواقف العابرة في طريقنا، فنشاهد حادثة تصادم بين سيارتين، عِراكاً بين متخاصمين، ولي أمر يشتكي تصرفاً ما من معلم.. وهكذا في الشارع:
خبّاز بالكاد يرد عليك السلام، بقّال تعطيه نقوداً في يديه لتحاسبه، وهو بالمقابل يرمي الباقي على «الكاشير» في تصرف غريب، تأخذ نقودك وتمضي محوقلاً، عامل محطة ينشغل بهاتفه الذي بيده وأنت تنتظره وهكذا بالكثير من المواقف… أليس هذا بعض ما نشاهده يومياً؟
بينما المثقف والأديب والمفكّر شعراء كتّاب قصة من رواية ومقالة ومقامة، ومن باحثين، يرى تلك الأشياء من وجهة نظر مختلفة تماماً كيف؟
سألتني كيف؟! حسناً:
المثقف أول ما يلمع في عينيه، يلتقطه من وجهة نظره، فهو يميل إلى ما يحرك قلبه ويشغل عقله تفكيراً، فنفس حادثة التصادم تلك التي ذكرتها فوق في بداية كتابة مقالي، فالغالب من غيره يسأل سؤالاً واحداً فقط:
«هاه سِلِمْتم؟» بينما المثقف نفس السؤال، ولكن هل تصادما نتيجة حب لم يكتمل، عين أبصرت جمال رمش ولم ينتبه لمقود سيارته، هل تلك السيدة التي خرجت سليمة، والحمد لله، كانت سبباً في التنكيد على زوجها، على ابنها، تنهال عليه نصيحة من القلب؟ حتى ذاك العراك بين شخصين، والدم ينزف من أحدهما، يلاحظ ورقة تساقطت منهوكة، بقايا ورد تناثر ذابلاً؟
ومن أغلب تلك المواقف يصنع حالة شاعرية بينه وبين نفسه، لماذا ذاك الخبّاز عيناه حادتان صباح هذا اليوم، وذاك البقّال لماذا الحزن خطّ خديه، وتلك السيدة الأنيقة التي تشبّك أناملها الناعمة في أصابع زوجها، وهما في الممشى، وعيناها لم تفارق تقاسيم وجهه!!
وهكذا ما لم يخطر على بال أحد، يخلق حالته ويكتب عنها من وجهة نظره، كذلك الذي يصلح إطار سيارته، ينتبه لساعد العامل، وشم لقلب مقلوب في وسطه، سهم مكسّر في منتصفه!
وكاتبكم يقرأ عيون المارة زاعماً منه أنه قارئ جيد لما وراءها. أذكر ذات مرّة شاهدتُ سيدة تدفع عربة تسوّق، والذي بجانبها كأنه يتعمّد عدم الانتباه لها مرة بهاتفه متحدثاً، ومرات متصفحاً، وهي لا تعيره انتباها، هذا الموقف بالذات لفت انتباهي بشدة، وأصابني فضول يا ترى ما السبب؟! ولأن لدي لقافة، أقصد ثقافة حاولت الاقتراب من أحدهما، بحيث أسمح لنفسي بالتنصّت بحذر مع وضع خطة للرجوع لخط العودة طبعاً، فالعمر واحد والرب واحد سبحانه، المهم بصراحة اتبعت خصوصاً تلك السيدة الممتلئة شباباً وعيونها تقدح شراراً، زوجها يقترب منها قليلاً ويبتعد كثيراً، عند مكان الأجبان المكان المفضل لدي منذ صغري، اقتربت منها ويدي على قلبي، طالباً من الله الستر عليّ وعليها!
ووجدت فرصة أن أشرح لها ما قاله العامل، لأن في لسانه لثغة فطرت من الفرح حين سألته ماذا تقول أنت؟ التفت لها مواجهاً، وهي تنظر إلي، وبالكاد الحروف تخرج من فمي حتى وقف شبحاً «سعلي» بيننا يخاصمها رافعاً صوته عليها ليسمعه بعض من كانوا بحانبنا، انسحبت فوراً بهدوء وحبّات العرق تتساقط فرحة أن الله سلمني!
عند المحاسب أرادت أن تدفع النقود، نهرها ليدفع هو، هنا لمحت عينيها وكأنها تصرخ بالدمع، نكّست رأسها تجر رجليها مسلسلة بالقهر، تابعتهما خارج «المول»، ضرب الشبح السعلي باب سيارته بقوة ناهراً العامل بأنه ليس لديه نقود معدنية، ترك زوجته تفتح الباب وتدلف سيارته والنقاش بينهما داخل السيارة لم ينته بعد!
ركبت سيارتي حزيناً وعندماً وصلت لبيتي فاتحاً بابه، نسيت أن أشتري أغراضي!
سطر وفاصلة
لا تقسو على نفسك! فهناك متسع للحياة
لا تجبر نفسك على عمل شيء
وغيرك يلتقط بقاياك
لا تقسو ولا تعتاد على جلد الذات ذاتك
من أجل غيرك فهو يبتسم وأنت حزين
لا تقسو على روحك… فهناك من يتمنّى أن يعيش في روحك
لا تقسو على هواكَ فهناك مَنْ يهواكَ
لا تقسو على حلمٍ تشظّى بآمالك
وغيركَ يحطم يبدد يبعثر يثير أشجانكَ
كن ليّنا مع ذاتك مطواعا مع طفل صغير يناغي أفكارك
كن جبلاً يستظلّه الجميع، ولكن لا تنسَ روحاً تعلّقت تحلم بعلو قمتك