أ.د.عبدالرزاق الصاعدي
ترجم حافظ إبراهيم رواية فكتور هوجو (Les Misérables)، فجعل عنوانها: (البؤساء)، جمع بائس، فاشتهر هذا الجمع وطار في الآفاق، وقال أحمد شوقي في رثاء حافظ:
وجريتَ في طلبِ الجديدِ إلى المَدَى
حَتّى اقترنتَ بصاحبِ البؤساءِ
ولكن معنى (البؤساء) في معاجم اللغة: الشُّجعان، ومفردها بَئِيس، وأما بائس فجمعها بائسون. فهل أخطأ حافظ وأخطأ الناس بعده؟
يقولون إن بؤساء إن كان جمع بائس فهو يخالف أقيسة التكسير، ولم يرد في العربية، ولكني أخالفهم وأجيز بؤساء جمعًا لبائس، على منهجي في التفصيح، وهو أنّي أقبلُ ما شاع على ألسنة المتكلمين والشعراء والكتّاب العرب وانتشر (الانتشار شرط) وكان له نظير من قياسٍ أو شذوذ أو توهم (النظير شرط)، وبؤساء شائع على أقلام الكُتّاب، وله نظائر وأكثر من وجه في التصحيح والتفصيح:
أحدها: الحمل على صُلحاء وشُعراء وعُقلاء توهّمًا أنّ البُؤس في البائس سجيةٌ فيه أو كالسجيّة، فيكون مقيسًا.
ثانيها: الحمل على باب الشذوذ، أعني ما شذّ وجُمع على فُعلاء، مثل: جُبناء جمع جبان، ووُدَداء جمع وَدود، وأُسراء جمع أسير بمعنى مأسور. فإن جاز للعرب الأوائل أن يتصرّفوا في لغتهم أفلا جاز لشعرائنا ولأدبائنا ولأهل العلم أن يفعلوا مثلهم؟
الثالث: التوهّم أن مفرد بؤساء بئيس بمعنى بائس، والتوهم باب في العربية.
وأقول: إنّ العرب في العصر العباسي وما تلاه ولّدوا مفردات وأحدثوا مصطلحات لا حصر لها في شتى العلوم مما لا يعرفه الجاهليون والإسلاميون والأمويون، وهذا شأن اللغة القوية الحية، ترى جديدها في كل حين، ولكل عصر بصمته فيها، ولكل زمن أمثاله وكناياته ومجازاته ومصطلحاته ومعرّباته ومولّداته.
ثم أقول: إنّ مذهبي في التصحيح والتفصيح مشروط بالنظير مع الشيعوعة، خلافًا لجمهور اللغويين الذين يشترطون في النظير الكثرة ليرقى إلى درجة القياس، نعم هذا هو الأصل الذي يؤطّر اللغة ولكن اللغة في الفصاحة درجات تغذيها لهجات، ولو كانت قياسًا مستقيمًا متلئبًّا لا زيغ فيه ما وصفت بالشجاعة وما وجدنا النادر والقليل والشاذ في عصور الاحتجاج، ولذا أقول: إنْ شاع لفظ على ألسنة الناس والكُتّاب وكان له نظير يمكن الحمل عليه، وإن كان قليلًا أو نادرًا، فحقّه أن يقبل، ولا يُشترط فيه الكثرة، ويقاس أيضًا على التوهّم عند الحاجة، فما خالف القياس ووافق وجهًا قليلًا أو نادرًا أو جاز حمله على التوهم يقبل ويشار إلى أنه يخالف القياس، فإن فُقد النظير حكم عليه بأنه من لحن العامة.