د.عبد العزيز سليمان العبودي
لازلت أتذكر وأنا في الخامسة من عمري ما تعانيه والدتي -رحمها الله- حين يقترب وقت الغروب، فتبدأ بترتيب الحطب تحت الموقد ثم تشعله لتبدأ الطبخ ونفخ الحطب ومداراته حتى يستمر متقدا، ليصطبغ الإناء بالسواد وهو الذي تم غسله بالأمس. ثم إذا نضج الطبخ، فلابد للإناء أن يبعد عن الموقد حتى لا يحترق، فالنار ليس لها مفتاح يغلقها متى شئنا. وهذه المعاناة تتكرر يوميا، حتى جاء والدي- رحمه الله- بقطعة حديدية مستطيلة الشكل مرتبطة بإنبوب من جهة ومن الجهة الأخرى اسطوانة ثقيلة. فانزاحت المعاناة، وارتاح الصدر من كتمة الدخان، فكانت تهمس بكلمات رافعة رأسها ويديها للسماء. هذه الكلمات التي أعتقد أنها دعوات لمن سهل هذا الأمر، ابتداء من والدي- رحمه الله- حينما أحضر موقد الغاز، وفي الطرف الآخر، رأس الهرم في شركة الغاز الوطنية (معالي: عبدالله النعيم)، الذي ساهم في انتشالها من الخسائر وتعزيز وجودها، في أرجاء الوطن حتى أصبحت ولا تزال الركن الرئيس في المطبخ. فتزينت المقاهي والمطاعم بمدافئ الغاز بالشتاء.
كتاب (بتوقيعي- حكايا من بقايا السيرة) لمؤلفه معالي الأستاذ: عبدالله العلي النعيم. صدر منه ثلاث طبعات، والرابعة في طريقها لرفوف المكتبات بعد التنقيح والتحسين. يقدم من خلاله سيرة ثرية بالعمل الدؤوب، خلال فترة التحول التنموي الذي شهدته السعودية. فتقرأ فيه، النعيم الذي انتقل من (عنيزة) الأم إلى الرياض (الأم الثانية)، فصنع وأسس وأقام ونفذ، فعامل الرياض كما عاملته، أماً حنوناً، تقسو وترحم، تجود وتحرم. على أن العاطفة تبقي الحنين للأم الأولى عنيزة، ففيها مراتع الصبا ومنازل الآباء والأجداد. وكان قاب قوسين أو أدنى أن يصنع حرف الدال ليسبق اسمه، لكنه صنع العالمية بأعماله وأفعاله، لتكون الرياض محط النظر بين أصقاع المعمورة. فتقاسم مع سلمان العز خدمة الرياض، فتولى تشغيلها وأبو فهد إدارتها. يتنقل القارئ من خلال الكتاب عبر الزمان والمكان والمواقف والبشر في رحلة تقترب من القرن. حكايا سردية متنوعة مر بها المؤلف، قدمها كما هي بدون تزويق أو إسفاف، حتى أنه يعترف في بعضها بخطأ قام به، أو بصراحة لم تكن في محلها، ليقدم للقارئ لوحة طبيعة، رسمتها ريشة الحياة يتجول القارئ بين أروقتها و مراسيها، ليرى دمعة سقطت هنا وفرحة ترف هناك، مع مساحات متنوعة من الجهد والعمل والبناء المتظافر بين الجميع، لصنع وطنٍ يشع بالأمل والخير لأهله ومن أقام فيه وزاره.
ابتدأ معالي النعيم حياته العملية من خلال التعليم سواءً بالتدريس أوالعمل الإداري في إداراة التعليم وفي جامعة الملك سعود، ثم سافر وجال بين البلدان ليصنع للرياض أجمل الحلل وأبهى الألوان، من خلال معرض الرياض بين الأمس واليوم، وكان لمعاليه بصمات متناثرة بين شركة الغاز الوطنية، أمانة الرياض، مكتبة الملك فهد الوطنية، مركز الملك سلمان الاجتماعي، والمعهد العربي لإنماء المدن وغيرها. وامتد عطاؤه لمسقط رأسه عنيزة، فكان له دور في إنشاء مركز ابن صالح الاجتماعي ومركز الأميرة نورة الاجتماعي. وكان التقاعد بداية عطاء جديد ابتدأ بعد غزو الكويت، فأدار تنظيم وترتيب إسكان الكويتيين، وتنظيم سفر غيرهم لبلدانهم. وتتابعت الأعمال تتالى، عبر مجالس الإدارة المختلفة والأعمال التطوعية المتنوعة بجهد رجل بألف.
النَّعيم بفتح النون، اسم من أسماء الجنة، فكما كان عبدالله النعيم تواقاً إلى الجودة في الأداء بأعمال الدنيا، فنفسه تواقة لنَعيم الجنة، وذلك من خلال الأعمال التطوعية، وسعيه الدؤوب في قضاء حوائج الناس، وهذا مصداقًا لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه دينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد ـ-يعني مسجد المدينة-شهرًا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ـ ولو شاء أن يمضيه أمضاه ـ ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة ـ حتى يثبتها له ـ أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام» – رواه الطبراني.