د. شاهر النهاري
في فترة تواجدي بمصر لدراسة الطب، كان هنالك من شد أسماعي، وأدهش عيني، وفتن ذائقتي الأدبية، وأوصلني إلى سماء المتعة في ذكاء اللهجة الشعبية المصرية، ومن أنقى وأجمل أبوابها، فكان يحمل سبع بطيخات، كل واحدة منها أحلى من الأخرى.
إنه الراحل الباقي متعدد الإبداعات صلاح جاهين، الذي نجد التنوع الأدبي والفني والدرامي والإبداعي بمجرد استعراض مسيرته المليئة بالجنون والفنون.
سيرة لا تدل إلا على عظمة وثراء ذلك الجو الثقافي القمة، عاشه في منتصف القرن المنصرم بين عمالقة ذلك الزمان، الذي يعد منجما للثقافة العربية، من علوم وشعر ورواية وفكر، ومسرح وسينما وموسيقى، فكان بينهم كالتلميذ الهاوي، لا يكاد يدرك قدر عظمته، ولا يقدم الأنا على ما يبدعه.
قدم للتراث المصري رسمات كاريكاتير خالدة، مليئة بالفلسفة، والسياسة، والسخرية، والانتقاد، والمعالجة الاجتماعية الناطقة بالصمت، والبسمة المتعالية على الظروف، والتي تبلغ غاية التفكر والنشوة، أو منتهيات الحسرة في كل من مجلة روز اليوسف، وصباح الخير قبل أن ينتقل إلى جريدة الأهرام، ليكون بسمة الصباح المصرية، التي تعدت الحدود المحسوسة.
شاعر خدم التراث العربي برباعياته المصرية السلسة الذكية العميقة، مع تراث زجل مدهش مليء بالحكم، يدمج السحر والرؤية وسط الخفة والدلع، جدع، ومهما بص لرجليه، فإنه لا يقع.
رباعيات تجاوزت مبيعات إحدى طبعات الهيئة المصرية العامة للكتاب لها أكثر من 125 ألف نسخة في غضون بضعة أيام، وقد قام الراحل شيخ الملحنين سيد مكاوي بتلحين أجزاء منها، بصوت الفنان علي الحجار، ما جعلها أكثر قربا للشارع والقلب والمنبر.
كما كانت كلمات أغانيه الوطنية المتجسدة في روح الشباب العربي حينها، تغنى عبدالحليم فيها بأغنية إحنا الشعب وبالأحضان، وصورة، ويا أهلا بالمعارك، وفايزة أحمد بياما قلبي قال لي لا، وكللتها أم كلثوم برائعتها راجعين بقوة السلاح، فكان يبدع أبيات قصائده بمشاعر المصري الأصيل، الذي لم يتوقف باكيا على النكسة، ولكنه ظل وطنيا يحدد للقلوب المشابهة له في الوطنية، بأن رجعة الأمل والعمل ممكنة.
ويستمر صلاح فيض من الإدهاش لعشاق الأفلام بقيامه بكتابة سيناريو فيلم خلي بالك من زوزو، وتطريز عدد من الأغنيات بألفاظ سمعها الشارع العربي لأول مرة «النوزك والنوزو، وحلاوه بقلاوه شنجر بنجر نو الهوقه، عروسه ننوسه، وعريسها أكل الجو حدوقه»، فكأنه حاوي مولد، يمتلك القدرة على ترقيص الحروف، والكلمات والقوافي البليغة العمق في الخصوصية المصرية الشعبية، والتي أثرت في الذائقة العربية.
ومع فيلم أميرة حبي أنا عرف كيف يحيل الدنيا إلى ربيع، والتقفيل على كل المواضيع، و»قال لك وصفة بلدية للصحة وطولة العمر، خد شمس وهواء على ميه بلا دوا بلا عيا بلا مر، وما فيناش كاني، وما فيناش ماني».
وكم أكد على ترسيخ رؤيته التشكيلية: «الشجر الناشف، بقى ورور، والطير بقى لعبي ومتهور».
هذا بالإضافة إلى ما سطره من مئات ترنيمات العمق الشعبي المصري.
وقد شارك ممثلا، وكتب سيناريوهات عدة أعمال سينمائية، «عودة الابن الضال، شفيقة ومتولي، والمتوحشة، شهيد الحب الإلهي، المماليك، واللص والكلاب، لا وقت للحب».
وأكمل جنون فنونه بأسطورة مسرح العرائس المصري والعربي الليلة الكبيرة، والتي طار فيها الشال، ورن الخلخال، وغنى فيها مسعد والأرجوز، والعمدة، وصرخت الفاقدة ضناها لأولاد الحلال، بقدرة تصويرية فنية مدهشة تجعلنا ننسى الخيوط المتدلية فوق العرائس، ونجول معها فعلا وسط احتفالات مولد شعبي، كان شائعا في حينها بكامل خصوصيته وتصوراته، وتعبيراته، وشعاراته ورموزه ونداءاته، ومحليته، وعاداته شاهد على التاريخ المصري يحكي.
مدرسة جاهينية، من التميز والسبق والإبداع والتفاني والأصالة، تمكنت مختلف مواهبه خلالها من الدوران في الهواء بيد البهلون المبدع، ودون سقوط بطيخة.
وعلى الرغم من حياة مبدعنا شبه البوهيمية، إلا أنه تمكن من الوصول لعمق وضمير الشارع المصري، ولتصبح لسان حال الصغار والكبار الحاكي.
مدرسة قدمت للثقافة المصرية تحفا نادرة وأيقونات خالدة كانت نعم الرسول الذي ساعد شعوب العالم العربي، ومثقفيه، وعوامه، للانجذاب للجماليات، والوصول إلى عمق معاني اللهجة المصرية وأصالة ثقافاتها وأمثالها، وتراثها المميز.
أنا أقصد من موضوعي هذا إلقاء بعض الضياء على تاريخ عميق، يعجز أي موهوب من مجاراته، وقد استمتعت في حينها كثيرا بتصفح مناهج مدرسته، والغوص في جنون فنونه، وما زلت أكبر أعماله، وأستطيع تمييز خصوصيتها، رغم أني لم أقابله يوما.
ولكني كغيري أقر بأستاذيته، وتفرده، وفنونه الساحرة، وحاجة مصر والعالم العربي في الوقت الحالي، إلى من هم مثله، من أهل الصنائع المتعددة، المبخسين حقهم من أجل الثقافة، ومن يهوون ويلتزمون ويقدسون ما يفعلون، بل ويضحون، ويتواضعون، حتى تتلاشى ذواتهم أمام بديع ما يتركونه من تراث للأجيال.
الأجواء الثقافية والفنية العربية الحالية للأسف مصابة بالزيف، والفساد، والمبالغة في تلميع الصدأ، ودخول التقنية طغى ضرره على فائدته، ليتسيد التافهين المشهد العام، ويكتنزون الثروات من مجرد حلب النجاح البسيط، وبلادة التهريج، وصنع أصنام للأدب والفنون من لاشيء، حتى وجدنا أننا في عمق ضيق الأنفاس نحتاج لمن يعيد الكلمة المضيئة والإخلاص، والعمل الأصيل:
«يا باب يا مقفول، إمتي الدخول؟
صبرت ياما، واللي يصبر ينول
دقيت سنين، والرد يرجع لي: مين؟
لو كنت عارف مين، أنا كنت أقول، وعجبي!»